كان لافتا ومدهشا أن يتجاوز احتفال الولاياتالمتحدة بعيد «النيروز» الفارسى حدود اللغة الدبلوماسية المألوفة فى مثل هذه المناسبات، حد وصفه من الرئيس أوباما بأنه لا يمثل عاما جديدا فى حياة الإيرانيين فحسب، بل فى حياة الأمريكيين أيضا وفى علاقتهم العميقة مع إيران، ففى الوقت الذى كان يتحدث فيه الرئيس استقبلت قاعات البيت الأبيض مأدبة «السينات السبع»، «سبعة أطعمة تبدأ بحرف السين يتناولها الإيرانيون فى ذلك اليوم» طبقا للمعتقد الفارسى ذى المرجعية المجوسية الزرادشتية. كان ذلك مصحوبا بغناء من فرقة فنون شعبية تتزين برداء فارسى الطابع. لم يقتصر الأمر على أوباما، لكنه امتد إلى وزير خارجيته الذى اكتشفنا فجأة أن ابنته متزوجة من إيرانى، وأن شقيقته تعرف الفارسية عن ظهر قلب. أما التعبيرات المغرقة فى حميميتها ضمن فضاء اللغة الرئاسية وما دونها فلا يمكن قراءتها بعيدا عن محمولاتها التاريخية والسياسية أيضا. فأوباما هنا يمثل أعلى تعبيرات السياسة الأمريكية ضبطا، والنيروز، على نحو يقينى، هو عيد القومية الفارسية الغازية والتوسعية الذى تزكى من خلاله القيادة الإيرانية نزعات هويتها، رغم تناقضها الموضوعى مع مشروعها ذى البعد الدينى. فهل يعنى الأمر أن ثمة اتفاقات أبرمت بالفعل لتحالف فارسى أمريكى يعضد التمدد فى أوروبا وآسيا ضمن الخارطة «الأوراسية» الجديدة مقابل تلك الفجوات المصطنعة التى سيتركها الخروج الأمريكى من الخليج العربى بحيث يصبح فضاء جاهزا لاستعادة النفوذ الفارسى وبسطه على تلك الجغرافية السياسية؟ الإجابة هنا لا تعنى الكثير، فالسياسة أبسط من كونها لغزا وأعقد من كونها نبوءة. وما فعلته يد الولاياتالمتحدة مع إيران وغير إيران فى طريق تأبيد مدها الإمبراطورى يمثل الحصة الناقصة من استحقاقات شعوب مغلوبة. والدرس الذى تلقّاه رئيس الوزراء الإيرانى المنتخب الدكتور محمد مصدق عام 1953 يعنى الكثير بالنسبة لإيران اليوم. فقد كان خطأ مصدق التاريخى هو تبنيه الحركة الداعمة لتأميم شركة البترول البريطانية، الوحيدة العاملة فى إيران آنذاك. وكان الثمن هو قيام الولاياتالمتحدة وبريطانيا بإسقاطه فى عملية مشتركة، وعادت إثر ذلك السلطة «الشاهنشاهية» المطلقة، ومورست على إثرها ضد الإيرانيين صنوف شتى من التعذيب والقمع الذى استمر أكثر من سبع وعشرين سنة . كان ثمن سقوط مصدق حصول الشركات البريطانية والأمريكية على عقود صناعة النفط بشكل شبه كامل. الرسالة إذن كانت واضحة ، إنها رسالة الأمس واليوم وغدا، فالحكمة الأمريكية تقول: «إن الحضارة والأرباح يمكنهما السير جنبا إلى جنب»! ربما يلخص هذا الشعار أسباب التحول الأمريكى الخطير نحو نفعية من نوع خاص ، ما دفع مؤسسات الحكم هناك إلى نبذ الفكر المثالى الذى اعتبره اليسار الجديد إنجيلا له، ليستبدل ذلك بمفكرين نفعيين اعتقدوا أن الأحكام الأخلاقية أحكام ميتة لأنها أحكام ثابتة , فى المقابل يتبدى مأزق السياسة العربية تجاه تداعيات خطيرة ستتجلى قطعا فى الفضاء الخليجى تجاه التمدد الفارسى المتوقع، باعتباره جزءا من التصورات الاستعمارية التقليدية فى إطار سوف يشمل لاحقا الوطن العربى على امتداده. ففشل مشروع الدولة الوطنية، حسب التصور الأمريكى، فى الالتحاق بمشروع الدولة «الحرة» أمريكية الطابع؛ يعنى حتمية عودة هذه الجغرافيا إلى نموذج ما قبل الدولة، وعلى المجتمعات العربية إعادة صنع أصنامها بالطريقة التى تحب. فى كل الأحوال فإن الرسالة الأمريكيةالإيرانية التى تأتى محمولة على جثة اتفاقات استراتيجية فى المنطقة، تكشف عن عدد من الحقائق الجديدة التى ستحكم الصراع لعقود طويلة قادمة على الأقل: أولا: الإدراك الأكيد للولايات المتحدة أنها لن تتمكن من الاستمرار فى دورها كزعيمة للعالم بحلول عام 2020 على أكثر تقدير؛ دفعها للتصرف كآخر زعيمة منفردة لهذا العالم، وهذه تقديرات تضمنتها عدة تقارير مقدمة للإدارة الأمريكية منذ العام 1993 . ثانيا: تشكل تلك التقديرات موقفا نهائيا لدى صانع القرار فى الولاياتالمتحدة بأنه لايجب التراجع تحت أى ظرف عن السيطرة على المنطقة «الأوراسية»، الامتداد السياسى والجغرافى المشترك بين آسيا وأوروبا، استنادا إلى تحليل الأمن القومى الأمريكى الذى يعتقد أن التاريخ الحديث لم يشهد قوة كونية إلا وخرجت من هذه المنطقة ومن ثم فإن السيطرة عليها يعنى تجديد شرايين الامبراطورية الأمريكية والقضاء على فرص قيادة عالمية بديلة . ثالثا: استتبع ذلك فرض مشروع أمنى موحد للفضاء الأوراسى يضمن دائما عدم التدخل الروسى وكسر فضائه الجغرافى بحيث يظل بمنأى عن كل ما يمكن أن ينعش أحلامه باستعادة الإمبراطورية السوفيتية الغابرة، ينطبق الأمر كذلك على الصين. رابعا: انسحاب أمريكى بتقديرات محسوبة من منطقة الشرق الأوسط وتسليم فضائها الجيوسياسى لثلاث قوى صاعدة هى إيران وتركيا وإسرائيل وترك داخلها للاعتمالات العرقية والإثنية ما سينتهى بها حتما إلى التقسيم . خامسا: ما تقدم من حقائق يعنى بالضرورة أن إدراكا سياسيا ما بدأ يتبلور لدى الساسة العرب بانهيار نظرية الأمن القومى التقليدية التى خرجت من عباءة الثنائية القطبية لتستقر فى حجر الولاياتالمتحدة. من هنا بدت الحاجة ، عربيا ، لإعادة النظر فى استعادة الدور المصرى. فى ضوء كل هذا، أتصور أن عيد النيروز الذى أصبح أمريكيا بامتياز؛ بدأ فى تاريخ بعيد عنا، وتحديدا يوم اتُخِذَ القرار بإعادة العالم العربى إلى نموذج ما قبل الدولة . لمزيد من مقالات محمود قرنى