مقارنة مع أجواء الاستنفار السياسى والإعلامى التى ترافق، عادة، زيارات أى وزير خارجية أمريكي، لم تأخذ زيارة ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا لإسرائيل والأراضى الفلسطينية المحتلة الاهتمام الإعلامى والسياسى الذى تستحقه. يعترف البريطانيون بأن قدراتهم محدودة، مقارنة بالنفوذ الأمريكي، فى التأثير على مواقف إسرائيل والفلسطينيين من مساعى تحقيق تسوية سلمية بينهما. ورغم أنه زار رام الله والتقى برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ، كعادة أى وزير أو مسئول بريطانى كبير ليكرر التأييد لصيغة حل الدولتين الأمريكية، فإن هدف الزيارة الرئيسى لم يكن له علاقة بالمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، بقدر ارتباطها بإسرائيل وبريطانيا. لم تكن تلك أول مرة يزور فيها كاميرون إسرائيل. فقد زارها عندما كان زعيما للمعارضة، لكنها زيارته الأولى كرئيس للحكومة البريطانية. وأرادها كاميرون أن تكون غير عادية. تحدث كاميرون، أمام الكنيست، عن أصوله اليهودية، وهو مالم يفعله على الإطلاق خاصة منذ بدأ نجمه يلمع فى سماء السياسة البريطانية. وفى خطابه قال كاميرون» المملكة المتحدة أدت دورا تفخر به وحيويا فى المساعدة فى تأمين إقامة إسرائيل كوطن للشعب اليهودي». هذا التاريخ، الذى يعرفه الجميع، لم يعد يحتاج إلى تذكير الإسرائيليين به. والأهم هو مستقبل هذا الوطن، الذى يشكو ساكنوه دائما من أنه مهدد من الجيران. وقطع كاميرون على نفسه تعهدا بتأمين هذا المستقبل . بدت نبرة كاميرون وكأنه يريد ان يضمن من الآن دعما من اليهود ومنابر الإعلام المؤيدة لإسرائيل فى بريطانيا وهو يستعد لصراع انتخابي، توحى الأجواء فى بريطانيا، بأنه سيكون شرسا العام المقبل. ليس الدعم سياسيا فقط بل اقتصادى أيضا يأمل به حزب المحافظين، الشريك الأكبر فى الحكومة الائتلافية الحالية، ويسعى لأن ينفرد بالحكومة العام المقبل. فقد رافق كاميرون فى الزيارة وفد اقتصادى وتجارى وتكنولوجى يضم 17 عضوا من بينهم لورد ليفنجستون، وزير الدولة للتجارة والاستثمار. والهدف هو جذب الاستثمارات الإسرائيلية إلى بريطانيا للمساعدة فى إخراج اقتصادها من أزمته. فرغم ضآلة حجم إسرائيل على الخريطة، فإنها، حسب الأرقام، أكبر شريك تجارى لبريطانيا فى الشرق الأوسط. ويبلغ حجم التجارة بين البلدين، حسب أرقام 2013 حوالى 6 مليارات دولار. وبريطانيا هى ثانى أكبر شريك تجارى لإسرائيل، كما أنها ثالث أكبر المصدرين إليها. وكانت زيارة كاميرون ووفد البيزنس المرافق له مناسبة تؤكد فيها بريطانيا القناعة بأنها تتعامل الآن مع دولة لم تعد ذلك الكيان الضعيف المحتاج إلى رعاية مَن أعطوه صك التأسيس، بل إن هذه الدولة بلغت من القوة ما يمكنها من بذل المزيد لرد بعض الجميل. وأحد مظاهر هذه القوة التى كشف عنها كاميرون، فى خطابه أمام الكنيست هو أن التكنولوجيا الإسرائيلية هى التى تحمى قوات حلف شمال الأطلنطى «ناتو» بما فيها القوات البريطانية فى أفغانستان. وهذه إشارة إلى استخدام هذه القوات لوسائل تأمين الاتصالات العسكرية، وأجهزة لكشف وإبطال مفعول القنابل البدائية. وفى بريطانيا يعتمد عدد من المصارف البريطانية الشهيرة مثل باركليز على التكنولوجيا الاسرائيلية الحديثة فى تأمين شبكاته المصرفية. ولذا، فإنه قبل ثلاث سنوات، أنشأت بريطانيا فى داخل سفارتها فى تل أبيب مركزا، هو الأول من نوعه فى العالم، للتعاون التكنولوجى مع إسرائيل. وشهدت زيارة كاميرون إحدى ثمار هذا التعاون، إذ جرى توقيع مذكرة تفاهم مشتركة بين الحكومتين لتبادل الخبرة والتعاون فى مجال التكنولوجيا الرقمية واستخدامها فى مجال الخدمات والأسواق. الثمرة الثانية هو ضخ الشركات الإسرائيلية استثمارات جديدة بقيمة 72 مليون جنيه استرلينى من شأنها خلق فرص عمل فى قطاعات الطاقة المتجددة والأدوية والبحوث الطبية. وخلال زيارة كاميرون، وقعت الحكومة البريطانية أيضا اتفاقية مع شركة تيفا الإسرائيلية للأدوية لإنشاء صندوق برأسمال قيمته 21 مليون دولار للبحوث الطبية، تسهم فيه الشركة وحدها ب 20 مليون دولار. وبهذه المناسبة، رتبت لكاميرون زيارة لمقر الشركة، التى تقول تقارير هيئة التأمين الصحى الوطنية البريطانية إن واحدا من كل ستة أدوية تستخدمها الهيئة مستورد من هذه الشركة. وطلب كاميرون بشكل مباشر زيادة التعاون بين البلدين مبشرا بأنه «سويا، يمكن للخبرة التقنية البريطانية والإسرائيلية تحقيق المزيد والمزيد». ولهذا لم يكن الدعم السياسى لإسرائيل هو السبب الوحيد ، بل حاجة بريطانيا الاقتصادية أيضا للتعاون معها، وراء هجوم كاميرون الشرس، من الكنيست، على الحملات الداعية لمقاطعة إسرائيل فى بريطانيا، ودعوته دعاة المقاطعة لمشاركتة فى «طموحه» للاستفادة من «خبرات إسرائيل فى الابتكار والتكنولوجيا». واتهم هؤلاء الدعاة ، وبعضهم ذو تاريخ سياسى وعلمى معروف فى المملكة المتحدة، بعدم النضج السياسي. وقبل أن يوجه هذه الرسالة، استخدم كاميرون منبر الكنيست فيما لم يستخدمه فيه سابقوه من الزعماء البريطانيين قبله، وهو الترويج لأفكار حكومته لجذب الاستثمارات. ولم يشعر بأى حرج فى أن يؤدى، دور مروج السلعة. وعرض الحوافز والمزايا التى تقدمها حكومته للاستثمارات الوافدة الجديدة، تشمل تسهيلات فى الضرائب وإصدار تأشيرات خاصة للمستثمرين ورجال الأعمال. ويراود كاميرون وحكومته أمل كبير فى يحقق المستثمرون الإسرائيليون رجاءه.