ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه .. قول عربى سائر يقترب من الحكمة ويضىء لنا جزءًا من عالم الواقع الذى نعيشه فى مصر الآن . ولقد كنا نتمنى عقب حدث الثلاثين من يونيو 2013 أن يتشكل تحالف سياسى عضوى من القوى ذات الثقل النسبى الأكبر، بحيث يمثل قطباً جاذباً لمجموع الحياة السياسية. وكنا نتمنى أن يمثل هذا التحالف قوة مازجة بين قدرة (الإقناع والإرغام السياسى) إزاء تيار الإسلام السياسى المصرى، بزعامة جماعة الإخوان المسلمين، من أجل الانخراط الفعال والآمن في الحياة السياسية . وكنا نأمل أن يسهم ذلك فى دفع ذلك التيار والجماعة المذكورة إلى النقد الذاتى، تمهيداً لإجراء نوع ما من (الإنصاف والمصالحة) فى إطار الخبرات المعاصرة لما يسمى بالعدالة الانتقالية . وسيراً على مدارج هذا «الحلم - المثال»، فقد كان من الممكن أن تنهض (مصر ثورة يناير) من كبوتها لتعاود الوقوف على قدميها راسخة البنيان بعد الثلاثين من يونيو. وكان يمكن لهذا «الحلم المثال» أن يجابه «الحلم الكابوس» لقوى دولية وإقليمية متعددة أرادت لمصر أن تكون بمثابة «الرجل المريض» فى المنطقة العربية الإسلامية المركزية، على غرار ما صنعته قوى أخرى مع تركيا (الدولة العثمانية) فى القرن التاسع عشر ، حينما اعتبرتها «الرجل المريض لأوروبا» حتى ألحقت بها الهزيمة العسكرية فى الحرب العالمية الأولى (1914-1917). ... وفى مواجهة «الحلم-المثال» و«الحلم-الكابوس»، فإن الحياة السياسية المصرية الراهنة لم تستطع أن تفرز قوة كبرى مواكبة لثورة 25 يناير وموجتها (التصحيحية) فى 30 يونيو، وحدث ما حدث مما رأيناه عياناً: انفراط (جبهة الإنقاذ الوطنى) وتداعى (حركة تمرد) وانقسام (شباب الثورة) على وقع الرغبة فى استعادة اللحظة الثورية (25 يناير 11 فبراير 2011) وما يصاحب هذه الرغبة من هواجس، حقيقية أو وهمية، حول عودة (نظام مبارك) وحول الخشية من قيام نظام تسلطى ذى عصب عسكرى . وهكذا انفرط ما أسماه البعض (تحالف الثلاثين من يونيو)، ولم يكن ثمة تحالف فى الحقيقة بالمعنى الدقيق أصلاً، وإنما كانت إرادة شعبية عارمة غير منظمة، تتصدرها طليعة عسكرية، بعد تمهيد مزلزل على الصعيد الجماهيرى لحركة «تمرد»، وتمهيد سياسى ضعيف ومتقطع الأنفاس لأحزاب (جبهة الإنقاذ). وبدلاً من أن تفرز الحياة السياسية المصرية تلك القوة الكبرى التى أردناها، لتصل بحدث الثلاثين من يونيو إلى «بر الأمان» وفق شعار (وحدة الجيش والشعب)، إذا بفيروس «اللبرلة» السياسية يتخلّل البناء الوليد ويمزقه من الداخل، وإذا بتحالفات سياسية (خطرة) تتخلق بين بعض (شباب الثورة) وبعض الفصائل المتشددة من تيار الإسلام السياسى، وتجرّ من ورائها كتلاً متدحرجة من التيارين الليبرالى واليسارى . وقد تشكلت بفعل ذلك حلقة ذات طابع «حاكم» فى السلسلة السياسية ، وأصبحت من أقوى الحلقات ربما لأنها من أضعفها، إذْ تمارس هيمنتها بفعل ارتكازها على قاعدة (نظرية) يصعب دحضها على المستوى (الشعبوى): الخشية على الديمقراطية وعلى الحريات وحقوق الإنسان، من حكم من يسمونهم (العسكر)، وخاصة بعد موجات القبض والاعتقال الأخيرة فى غمار المواجهة الأمنية لأعمال العنف السياسى والمسلح فى أرجاء البلاد . وبدلاً من أن تتألف (جبهة وطنية متحدة) قوامها الصلب تحالف الشعب والجيش، إذا بفيروس (اللبرلة) المتسلّل يهيب بأطراف التحالفات المفككة الجديدة أن تصيح: الذئب ..! الذئب ..!. وما هذا الذئب الوهمى الذى يعوى، فى عرفهم، سوى (العسكر) المتوهّمين من جانب، و(الفلول العائدين) من جانب آخر. وما دروا أن النظام الاقتصادى الاجتماعى لمبارك قائم وسيظل معنا ردحاً من الزمن حتى نزيحه باستكمال النصف الثانى لثورة يناير، وأن رموزه السياسية والإعلامية زائلة أو عابرة رغم طفوها على السطح بين حين وآخر، لمّا توافقت القوى السياسية جميعاً بعد ثورة يناير بمن فيهم «الإخوان المسلمون» على استبعاد مفهوم «العزل السياسى» بتعريفه الجامع المانع . وقد كان المفترض أن تسعى القوى الوطنية كافّةً إلى عزل (الفلول) عملياً فى معمعان الحركة الشعبية، وأن تلتقى مع الجيش على كلمة سواء، وتقيم فى البرلمان القادم آلية تشريعية للرقابة النيابية على المؤسسة العسكرية . ولكن القوى المذكورة استسلمت إلى الرغبة فى مقارعة خطر محتمل احتمالاً بعيداً جداً (وهو حكم العسكر..! وعودة نظام الحكم المباركى ..!) ونأت بجانبها عن مواجهة الخطر الفعلى أو الحالّ: وهو التهديد بفقدان قوة الدولة المصرية. وها هى مثلاً الأحزاب الناشئة والمكونة لجبهة الإنقاذ المتفككة تلجأ الآن إلى سلاح التخويف من مركّب (الذئب العسكرى المباركى) الوهمى، وتريد قانوناً للانتخابات النيابية (على مقاسها) لتتربع على عرش البرلمان القادم، وهى التى ضيعت فرصة تكوين (الظهير السياسى والشعبى) لحركة الثلاثين من يونيو، وبرهنت على الإخفاق التاريخى الذريع. فهل آن أن تلتقى قوانا الوطنية على كلمة سواء، وتقيم مع جيشها الوطنى «حائط الصد» المتين فى مواجهة المخاطر الحقيقية، وهل توجّه نداءً حاسماً إلى تيار «الإسلام السياسى» بالعودة عن طريق المجابهة الخاسر، ونداءً آخر إلى أهل السلطة ، للجمْ «التيار الاستئصالى» بخياره الخاسر، حتى يكون الوطن هو الكاسب الوحيد فى نهاية المطاف؟ وليكن الطريق إلى كل ذلك هو بناء «الجبهة الوطنية المتحدة» كصيغة جامعة خلال فترة زمنية انتقالية محددة (ولتكن عشر سنوات) قوامها برنامج وطنى واجتماعى حقيقى ، يعيد العافية المفقودة إلى الوطن المنهك، ويعمل على تحقيق التوازن الاجتماعى العادل، والإنصاف للقوى المنتجة ، انطلاقاً من المشاركة الشعبية المتعاظمة فى السلطة السياسية . فهل نفعلها حقاً ..؟ لمزيد من مقالات د.محمد عبد الشفيع عيسى