من يقرأ أحداث التاريخ الإسلامى وما يجرى على ساحاته من أحداث، يجد قصص الدماء التى سالت بسبب الشدة والعنف والتطرف والغلو الذى يعد سمة من سمات الجماعات التكفيرية، ولقد تفاقمت هذه الظاهرة واشتد خطرها مع جماعة «الخوارج» فى عهد الإمام على رضى الله عنه، وكثير من الصحابة، واستمرت مدرسة التكفير تتناسل جيلا بعد جيل عبر تاريخنا الإسلامى لتحصد الأرواح وتسفك الدماء وتهلك الحرث والنسل، حتى أكابر علماء امتنا الإسلامية أمثال الرازى والخوارزمى والفارابى والبيرونى وابن سيناء وابن رشد والعسقلانى والسهروردى وابن حيان والنووى والكواكبى وابن خلدون، لم ينجوا من سلاح التبديع والتفسيق والتكفير والشنق والطرد ومصادرة أعمالهم، بل إنهم أحرقوا كتاب «إحياء علوم الدين» للإمام الحجة أبى حامد الغزالي. غاب عن الجماعات التكفيرية أن الإسلام بتشريعاته وعباداته ومعاملاته وأحكامه ومكارم أخلاقه أوسع وأشمل من أن يختزل فى حزب سياسي، أو طائفة أو مذهب أو شيخ أو جماعة من الجماعات، وتحولت المذاهب الفقهية عندهم إلى أحزاب سياسية وإيديولوجية كل حزب بما لديهم فرحون. وانطلقت فتاوى دعاة ومشايخ التكفير الذين ضلوا وأضلوا شباب الأمة معهم، على الشبكات العنكبوتية من فيسبوك وتويتر واليوتيوب، وأصبحت ظاهرة التكفير هى فتنة الأمة الإسلامية اليوم. علماء الأزهر يؤكدون أن استخدام الفتاوى التكفيرية لاستحلال الدماء والأموال والأعراض وتحقيق المكاسب السياسية والشخصية على حساب مصلحة الوطن محرم شرعاً، وانه لا يجوز بأى حال من الأحوال تكفير شخص لشخص آخر. وطالبوا بتكاتف الجميع لمواجهة هذه الظاهرة التى انتشرت بصورة مفزعة فى الفترة الأخيرة، وتفعيل دور علماء الدين والمؤسسة الأزهرية فى تصحيح تلك المفاهيم، والرد على الفتاوى الخاطئة بالحجة والدليل كما ورد فى القرآن والسنة، وتجفيف منابع التكفير، وكشف شيوخه ومنظريه، ووضع انحرافاتهم أمام مرآة الشريعة الغراء، التى تتبرأ ممن يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، بغية مصالحهم الشخصية الضيقة، ولخدمة أجندة أجنبية بغيضة تهدف الى تحقيق المزيد من تفتيت عالمنا العربى والإسلامى والسيطرة على ثرواته. جهل بالدين يقول الدكتور محمد نجيب عوضين أستاذ الشريعة الإسلامية والأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية سابقاً، إن الفتاوى غير المسئولة التى تحض على تكفير فئات من المجتمع، والتى انتشرت مؤخرا دون إبداء أسباب هذا التكفير، ولا يقصد من ورائها إلا إهدار دم هذه الفئة المكفرة، وبصفة خاصة من جماعات الجهاد التكفيرية، وبعض من لا يفقهون أحكام الشريعة بدقة، فيصفون بالكفر من ارتكب صغيرة من الصغائر أو أمر خلافى فيميلون به إلى تكفير صاحبه دون حجة أو برهان، وهم فى هذا إنما يسقطون أحكام فقه الجهاد، على فقه الواقع الآن رغم أن القياس بينهما لا يجوز والمسافة بعيدة بين أحكام كل منهما، فما يفتى به فى وقت لا يفتى به فى وقت آخر، وما جاء يخص طائفة بعينها فى زمن من الأزمنة لا يطبق فى مجتمع أو فى ظروف أخرى، والنبى صلى الله عليه وسلم، حذر من إطلاق مبدأ التكفير فقال صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها)، ولأن إخراج الإنسان عن دينه لا يكون إلا إذا ارتكب ما يؤدى به إلى الشرك أو الردة أو أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة، وكما كان يقول العلماء إن من كانت هناك تسعة وتسعون طريقا فى قوله تخرجه عن الدين وطريق واحد قال به يقربه من الدين، فلا نكفره، وهذا كله يحتاج إلى الدليل، والمساءلة والتحقيق، حتى يقوم القاضى أو ولى الأمر من التثبت بأن هذا الإنسان يثير الفتنة ويحرض الناس عن الخروج على الدين، فالمعروف عند الفقهاء أن الكفر لا يكون إلا بسب الذات العلية أو صفة من صفاتها أو سب الأنبياء أو تحقير الكتب السماوية، أو إنكار التكليفات الشرعية الواجبة من الدين بالضرورة، وما عدا ذلك فلا يملك أحد أن يكفر صاحبه إلا إذا أصر على ذلك باللفظ أو بالكتابة ويصر على ذلك هنا يكون الحكم للقاضى وليس للأفراد، بالتدرج الشرعى الوارد باستتابته حتى يرجع فيما يقول وإلا ترك الأمر لولى القضاء، وليس هذا الحق للأفراد، وإلا سادت شريعة الغاب وتحول كل صاحب فكر أو مغال فى تطرفه بتكفير معارضيه، فتقوم الفتنة فى البلاد، وتهدر الدماء ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بنتائجها. سبل المواجهة وأضاف: إنه بمجرد ظهور مثل هذه الفتاوى يجب أن يصدر الرد الصحيح من المؤسسات الدينية المعتمدة بصحة القول فى هذه الفتاوى وتوجيه الناس إلى عدم الالتفات إلى هذا التطرف، ذلك لأن صمت وسلبية هذه المؤسسات يؤدى إلى تضخيم أثر تلك الفتاوى بين الناس، وكذلك يجب أن تكون هناك عقوبات تطبق على من يقوم بإصدار مثل هذه الفتاوى بعد التحقيق معه، بتهمة التحريض على إثارة الفتنة فى المجتمع، فى أمور ليست ثابتة أو قطعية وإنما هى محل خلاف، يتغير فيها الحكم بتغير الزمان. وهذه المؤسسات الدينية مثل الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء والمتخصصون فى الدراسات الفقهية المباشرة من أساتذة كليات الشريعة بالأزهر وأقسام الشريعة بكليات الحقوق هم الذين يقع على عاتقهم أمانة الرد على مثل هذه الفتاوى الضالة والتى يجد أصحابها تأويلات مبتدعة لإصباغ الشرعية على أفعالهم. وطالب وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة بعدم المساعدة فى تضخيم هذه الفتاوى بتركيز الضوء عليها لأنهم بذلك يسهمون من حيث لا يقصدون فى اتساع ظاهرة نشر هذه الفتاوى الضالة. المفتى والقاضى من جانبه يقول الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، إن نسبة أحد من أهل القبلة إلى الكفر، ومما يتصل بمسألة التكفير، والتشريك، والتفسيق، وكل ذلك محرم، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) الآية 94 سورة النساء، وأيضاً قول النبي، صلى الله عليه وسلم، من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا)، ومن المقرر شرعاً أيضا أن الأصل بقاء المسلم على إسلامه حتى يقوم الدليل اليقينى لا الظنى على خلاف ذلك، ولا خلاف بين الفقهاء فى أنه لا ينبغى أن يكفر مسلم يمكن حمل كلامه على محمل حسن، أو كان فى كفره خلاف ولو كانت رواية ضعيفة، ومن المقرر شرعاً أن ما يشك فى كفره، لا يحكم به، فإن المسلم لا يخرجه من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، إذ أن الإسلام الثابت، لا يزول بالشك، فإن كانت المسألة وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنع التكفير فعلى الجهات المختصة .. (المفتى والقاضى وهم أهل الاختصاص فقط فى الحكم بالتكفير أن يميلا إلى الوجه الذى يمنع التكفير) ولأن الأحكام تناط بالمظان والظواهر، فيجب الكف عن إيذاء أهل القبلة من التكفير، وحذر الله تعالى وأنذر فقال تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) الآية 58 بسورة الأحزاب، والنبى صلى الله عليه وسلم، قال: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله) رواه أصحاب السنن. وأضاف: إنه من المعلوم فى واقعة سيدنا أسامة بن زيد رضى الله عنهما، لما قتل رجلا من جهينة بعدما قال الرجل لا إله إلا الله قال النبي، صلى الله عليه وسلم، لما بلغه ذلك، يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟! قال إنما كان متعوذاً قال أشققت عن قلبه؟! فعرفت أنه كان متعوذاً ، ما نفعل ب لا إله إلا الله إذا جاءت تجادل عن قائلها يوم القيامة؟ وروى أن سيدنا عمر رضى الله عنه قال: (إن الوحى قد انقطع ونأخذكم بما ظهر من الأعمال).. مواجهة الفكر المتطرف وطالب بوضع تدابير وقائية وزجرية معاً من قبل خبراء على أرض الواقع وليس بمجرد بيانات إنشائية، فمن ذلك تجفيف منابع التكفير، وخاصة عند قوى تمارسه الآن مثل الذين يطعنون فى عقائد الناس، كالأشاعرة والصوفية، وكذلك من قوى التكفير الشيعة الإمامية الذين يكفرون أهل السنة والأشاعرة والصوفية، فيجب التصدى لهؤلاء بحزم وحسم، وتغليظ العقوبات الزجرية التعذيرية بحق المكفرين (جزاء وفاقا) وعمل منظومة متكاملة فى أعمال تعليمية ودعوية وثقافية وإعلامية من أكفاء لا تعرف الكلل أو الملل لدفع وباء وفتنة التكفير الذى بسببه تستحل الدماء والأموال والأعراض. حملة شرسة فى السياق ذاته أكد الدكتور عبد الفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أن مصر تتعرض فى هذه الأيام بشدة لأنواع كثيرة من العدوان التى تقع من بعض فئات المجتمع على أهلها ومؤسساتها ومنشآتها العامة والخاصة من خلال حملات التكفير والتخوين التى انتشرت بصورة مفزعة نتيجة لغياب الأخلاق من أجل تحقيق مصالح خاصة على حساب الوطن، وأضاف إدريس أن مصر تتعرض لحملة منظمة من الداخل والخارج لنشر الفوضى وشيوع التخريب من خلال نشر هذه الأفكار وبثها فى عقول الناس سواء من خلال وسائل الانترنت أو بعض القنوات الفضائية لبث هذه الحملة الممنهجة لتخريب مصر من اجل إسقاطها لمصالح خارجية كلنا نعلمها، وواجب كل مصرى يحب وطنه أن يحارب هذه الفتاوى والأفكار التكفيرية لأنها جهاد فى سبيل الله من اجل الوطن ولا تقل عن حرب العدو، وأضاف أن ما يحدث الآن من سجال من جانب هؤلاء المخربين ما هى إلا زوبعة فى فنجان، والمجتمع كله على علم بأن هؤلاء مخربين ويطلقون هذه الفتاوى التكفيرية لزعزعة استقرار المجتمع. وأوضح الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء، أن إطلاق الفتاوى التكفيرية لتحقيق مكاسب سياسية محرم شرعا، ولا يجوز بأى حال من الأحوال أن نكفر بعضنا البعض لأنه من المحرمات شرعاً، مشيرا إلى أن الأزهر الشريف وعلماءه ودار الإفتاء المصرية، كان لهم بالغ الأثر فى محاربة هذه الأفكار من خلال الفكر الوسطى المستنير للرد على هؤلاء وطالب الجميع علماء وشعباً بالوقوف ضد هؤلاء المخربين الذين يريدون أن تشيع الفتنة فى مصر من أجل سقوطها لأغراض شخصية أو سياسية، وأن مصر محفوظة برباط من الله إلى يوم القيامة ولا يستطيع أحد النيل منها بفضل الله وبفضل علمائها وشعبها الأبي.