أمس الأول حلت ذكرى رحيل أحمد لطفى السيد (15 يناير 1872 5مارس 1963) أفلاطون الأدب العربى كما وصفه تلميذه الأديب عباس محمود العقاد, عاش قرنا الا قليلا من تاريخ مصر وكان قرنا حافلا بالأحداث شهد موجات من الصراع الفكرى والسياسى والاجتماعى ما طبع تاريخ مصر فى تلك الفترة بطابع خاص متميز أستاذ الجيل.. هو صاحب المقولة الشهيرة «الإختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية», والأمة لديه «الأمة المصرية», يؤمن بأن التعليم أهم من الاستقلال, ومن أوائل المنادين بتعليم المرأة, حيث تخرجت أول دفعة جامعية من الطالبات فى أثناء ادارته للجامعة .
الليبرالية والقومية تأثر بالشيخ محمد عبده الذى تعرف اليه فى أثناء دراسته و شجعه لما رأى تميزه فى الكتابة وميله إلى الحرية والديمقراطية، كما تأثر بأفكار جمال الدين الأفغانى, فكانت مدرسة أحمد لطفى السيد امتدادا لمدرسة الشيخ محمد عبده فى اعتناقها للاصلاح والتطور وابتعادها عن العنف السياسى, وان عاد أحمد لطفى للعمل السياسى الذى ابتعد عنه الشيخ محمد عبده, حيث مارس واهتم جيل ما بعد الثورة العرابية بالسياسة, وتحددت معالم الاتجاهات الفكرية والسياسية والاجتماعية, وانعكس ذلك على شخصية لطفى السيد فأصبح الناطق بلسان جيله حتى صار معلمه الأول وكان لديه من الاستعداد الذهنى والعقلى ما بوأه مكان الصدارة الفكرية فلم يتقيد بتقاليد الطبقة التى ينتمى اليها «طبقة الأعيان» ولم يتحرر منها, فتبنى المفهوم الليبرالى للحرية فى أوروبا, مناديا بتمتع الفرد بقدر كبير من الحرية وبغياب رقابة الدولة على المجتمع , فالأمة من حقها أن تحكم نفسها بنفسها , مشددا على ضرورة أن يكون الحكم قائما على أساس التعاقد الحر بين الناس والحكام , وهنا يختلف أحمد لطفى السيد عن الإمام محمد عبده الذى يؤمن بحكم الفرد بشرط أن يكون عادلا والذى يراه لطفى لايصلح الا للمجتمعات البدائية. كما دعا لطفى السيد للقومية المصرية والربط بين الجنسية والمنفعة، بعيدا عن الرابطة الشرقية والدينية، كأساس لانتماء المصريين رافضا ربط مصر بالعالم العربى أو تركيا أو العالم الإسلامى سياسياً, يقول لطفى «ان مصريتنا تقضى أن يكون وطننا هو قبلتنا, وأن نكرم أنفسنا ونكرم وطننا فلا ننتسب لوطن غيره».
تأسيس الحزب والجريدة بعد أن ترك أحمد لطفى السيد العمل الحكومى انضم إلى مجموعة من الأعيان أصحاب الفكر والقلم والنضال السياسى منهم على شعراوى وعبد الخالق ثروت وسليمان أباظه لتأسيس حزب الأمة عام 1907 واُختير أحمد لطفى السيد سكرتيراً عاماً له ورئيساً لتحرير صحيفته المعروفة باسم «الجريدة», وكانت سياسة الجريدة تقوم على المطالبة بالاستقلال التام والدستور والدعوة إلى فكرة مصر للمصريين ، وأشار أحمد لطفى السيد الى هذا الاتجاه «نريد الوطن المصرى والاحتفاظ به، والغيرة عليه كغيرة التركى على وطنه، والإنجليزى على قوميته، لا أن نجعل أنفسنا وبلادنا على المشاع», وقد استمرت رئاسته للجريدة ما يقرب من سبع سنوات , ثم عُين أحمد لطفى السيد مديراً لدار الكتب.
صيحة الاستقلال بعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى سنة 1918 استقال أحمد لطفى السيد من دار الكتب، اشترك مع سعد زغلول وعبدالعزيز فهمى وعلى شعراوى وغيرهم فى تأليف وفد للمطالبة بالاستقلال، وسافر لطفى السيد مع الوفد المصرى إلى باريس لعرض مطالب مصر على مؤتمر السلام فى فرساى, وظهر متميزا بعقليته المفكرة عن غالبية المجموعة المصاحبة له، ومن هناك بعث الوفد بنداء تاريخى الى الأمة كتبه لطفى السيد «أيها المواطنون الأعزاء.. لقد رفعتم منذ عامين عن كبريائكم القومى ذلك العبء الذى يثقل كاهله, وبصيحة الاستقلال أعلنتم فى وجه العالم بأسره حقكم فى الحياة وما زلتم من ذلك اليوم تثبتون أنكم جديرون بأمانيكم الوطنية, وجاءت نتيجة الاستنارة برأيكم فى مشروع الاتفاق مثبتة أن الاستقلال ليس فى نظركم كلمة تردد فى الفضاء بغير معنى, بل أنتم تريدون استقلالا حقيقيا خليقا بكم, وبمستقبلكم الذى سيرسل غدا اشعته الوضاءة على مصر, هذا الاستقلال سنحصل عليه باتحادنا, وبروح التضحية والايمان بأنفسنا وبعدالة قضيتنا المقدسة, ايمانا هادئا صادقا.. فلتحيا مصر».
رجل الجيل عُين أحمد لطفى السيد مديراً للجامعة المصرية «جامعة القاهرة» بعد أن أصبحت حكومية عام 1925، وعمل على توسيع الجامعة لتضم عدة كليات منها كلية الحقوق والهندسة والزراعة والتجارة ، كما قبلت الجامعة أول مجموعة من الفتيات للالتحاق بها حيث تخرجت أول دفعة من الطالبات عام 1933, وكان ذلك بداية لتمهيد الطريق للنهوض بالمرأة، والمحافظة على حقها فى التعليم , وظل لطفى يدير أمور الجامعة لا يبتعد عنها الا حين يدعوه الواجب الى العمل القومى أو يدعوه الحرص على استقلالها احتجاجا على عدوان يقع عليها ولم يكن يتركها الا ليعود اليها, فابتعد عنها أول مرة حينما طلب منه صديقه محمد محمود أن يشارك فى وزارته عام 1928, ليشغل منصب وزيرالمعارف, ثم عاد الى الجامعة فى العام التالى بعد استقالة وزارة محمد محمود. وابتعد عن الجامعة فى المرة الثانية حين قامت وزارة اسماعيل صدقى باقصاء الدكتورطه حسين عن الجامعة عام 1932, وهو ما رآه لطفى السيد عدوانا على استقلال الجامعة فقدم استقالته إلى وزارة المعارف احتجاجًا على هذا التدخل لأنه كان حريصا على كرامة الجامعة وعمل على ابتعادها عن السياسة , ثم عاد الى الجامعة بشرط أن يعدل قانونها بما لا يدع لوزارة المعارف الحق فى نقل أستاذ من الجامعة إلا بعد موافقة مجلسها, وتقدم باستقالته مرة أخرى عام 1937 احتجاجا على اقتحام البوليس لحرم الجامعة, التى يراها حرما خالصا يقوم على الحرية فى الرأى والتفكير, ويعود للجامعة مرة ثالثة مشترطا أن يكف رجال الحكومة عن الاتصال بالطلبة واقحامهم فى السياسة للمحافظة على الأخاء الجامعى بينهم, وبقى لطفى السيد مديرا للجامعة حتى عام 1941. وشارك فى وزارة إسماعيل صدقى عام 1946وزيرا للخارجية, وخرج من وزارة صدقى لمواجهتها المد الشعبى المطالب بالتحرر والاستقلال, مفضلا الابتعاد عن السياسة, ثم تولى رئاسة المجمع اللغوى ثمانية عشر عاما .
المرشح الديمقراطى كانت ديمقراطية أحمد لطفى السيد سببا فى اخفاقه عندما رشح نفسه لعضوية البرلمان عن دائرة الدقهلية , حيث خاف المرشح المنافس له من مواجهته, فاستغل الجهل وحداثة كلمة الديمقراطية فى العشرينيات من القرن الماضى, وأشاع فى محيط الدائرة أن أحمد لطفى السيد ديمقراطى وأن الديمقراطية تعنى الكفر متهما لطفى السيد استبدال ايمانه بالله بالديمقراطية , وانتشرت الشائعة فى القرى ولاقت سخط أهل الدائرة على المرشح «الديمقراطى» الذى يدافع عن قضاياهم و حقوقهم , بعدما أقسم لهم المرشح المنافس أن لطفى السيد ديمقراطى وحذر أهل الدائرة من انتخاب لطفى السيد معللا بأن ذلك ترك للإسلام واعتناق للديمقراطية, وانتظر أهل الدائرة المؤتمر الانتخابى لاحمد لطفى السيد, وسألوه هل صحيح انت ديمقراطى؟ ورد عليهم لطفى السيد نعم أنا ديمقراطى, وعندما تأكدوا أنه ديمقراطى انصرفوا عنه
ألف باء النهضة يقول الدكتور حسين فوزى النجار فى كتابه عن أحمد لطفى السيد كانت الترجمة جزءا من رسالة الاستاذ لأمته ودعما لأفكاره التى نادى بها , فعلى الأمم التى تخلفت لا سبيل لها الا أن تلحق بما فاتها من علوم وفنون وفى الترجمة ما يسد حاجة الأمة ويهديها الى المعرفة وهى ألف باء النهضة فى كل أمة وفى كل زمان, وبهذا المعيار المنطقى الدقيق لفضل الترجمة على النهضة أقبل على ترجمة أرسطو , فالترجمة فى نظر لطفى السيد وسيلة وليست غاية وهى أنفع من التأليف فى بداية النهضة , استغرق الأستاذ فى ترجمة أرسطو قرابة ربع قرن, ومترجم أرسطو أراد أن يعرف الناس بالسياسة عند أرسطو ويهدى الناس الى أقوم وسائل الحكم التى تحقق حرية الفرد وحرية المجتمع فهو كأرسطو يبحث فى تدبير شئون الدولة ليكون «سكانها فضلاء». يقول عباس محمود العقاد عنه كان فى فكرته «أفلاطونيا» بجميع معانى هذه الكلمة , من غير منفعة أو بغير داع من دواعى الأنانية , وأن الرجل العام ينبغى أن يعيش للمصلحة العامة تطوعا وألا يشتغل بخاصة أموره الشخصية لأن الدولة التى يتجرد لخدمتها هى التى تتكفل له بكل وسائل التفرغ لتلك الخدمة .. هذا هو دستور الحكم الأفلاطونى وقد كان «أحمد لطفى السيد» يعيش فعلا على وفاق هذا الدستور. ويقول طه حسين عن لطفى السيد «لست أعرف له نظيرا فى الكتابة, ولا فى التفكير ولا فى الترجمة , وأزعم أن ليس بين المصريين وغير المصريين من يستطيع أن يجد له نظيرا فى هذه الوجوه الثلاثة».