ين الحين والحين, تطلع علينا الإعلامية الأدبية كريمة زكي مبارك بالجديد من آثار أبيها الدكاترة زكي مبارك, عكفت عليها إعداد وتقديما, وجمعت أشتاتها من الصحف والمجلات, وصنعت منها إضافة لمكتبة الأديب الكبير. وأحدث لآلئ زكي مبارك من صنع كريمته كتابه زكي مبارك ناقدا للنثر الذي يضم مقالاته المنشورة في مجلة الرسالة ابتداء من سنة1940, وهي مقالات تنبض بجرأته في التناول وصراحته في النقد, وايثاره ما يراه حقا وعدلا, علي وشائج الصداقة أو دعاوي المجاملة. وهي الأسباب التي أفقدته علي مدي حياته صداقات كثيرة كانت تربطه بكبار أدباء عصره وفي مقدمتهم الدكتور طه حسين ومصطفي صادق الرافعي وعبد العزيز البشري والأستاذ أحمد أمين وغيرهم, وجعلت نصيبه من الحياة الاجتماعية أقل القليل. ففي حين كان خصومه الذين يعملون علي التعتيم عليه وإقصائه بعيدا عن العمل في الجامعة والمؤسسات الثقافية يحظون بأرقي المناصب في الوزارة والجامعة, ظل زكي مبارك مهمشا مطاردا مقصيا, محكوما عليه بالنفي في وطنه, وكان أعلي منصب شغله هو مفتش اللغة العربية في وزارة المعارف, لكنه حين غادر مصر مبعوثا ثقافيا وأدبيا إلي العراق حظي بالمكانة اللائقة به, وأصبح له جمهور بالملايين يقرأ صفحاته عن ليلي المريضة في العراق وأشعاره البديعة التي جمعتها كريمته فيما بعد في عدد من الدواوين, وكتبه الباقية عن التصوف الإسلامي والنثر الفني وعبقرية الشريف الرضي والموازنة بين الشعراء وغيرها. وحين اعتدل الميزان سطع اسم زكي مبارك من جديد. في كتابه الجديد زكي مبارك ناقدا للنثر يعرض علينا ألوانا وفنونا من طرائقه في النقد, وما يراه جديرا بصنعة الكتابة وحقيقة الكاتب, والفرق الجوهري بين الكاتب المطبوع الذي يستحدث أسلوبا له بغير تصنع, والكاتب المصنوع الذي تفترسه اللغة ويقع في التكلف وغواية التفصح الثقيل, بدلا من أن يرسل نفسه علي سجيتها الأصيلة. فالكاتب الحق في نظره هو الذي يقتنص قلبك وعقلك في مهارة الصائد الختول الذي يري الصيد ولا يراه الصيد. يروضك علي تغيير ما بنفسك بنفسك, فلا تتوهم أن له يدا في نقلك من حال إلي حال, وإنما تشعر أنه يغير بالنيابة عنك, وأنك لو حملت القلم لكنت أقدر علي الإبانة والإفصاح. وهو يمضي في شرح فكرته وتوضيحها حين يقول إن الأساس في الكتابة أن تكون فنا أخفي من نظرة العاشق بمحضر الرقباء, هي سياسة دقيقة جدا, فالكاتب الحق هو دائما من أصحاب المبادئ والعقائد لا في حدود ما يتصور الناس, ومن هنا يجوز للكاتب أن يلقاك بما تحب وبما لا تحب, وهو حين يستفحل قد يزلزل رأيك في جميع الشئون ولو حدثك عن مواقع هواك. فأين( فلان مثلا) كاتبا من هذه المعاني؟ هو رجل صخاب ضجاج يدق الأجراس الضخام حين يدخل الغابة للصيد. كل همه أن يقنعك في كل حرف بأن الكتابة شيء ضخم يروعك ويهولك, وإن لم يكن لذلك موجب توجيه الفكرة أو يفرضه البيان, فلأي غرض يصنع بنفسه هذا الصنيع؟ ومتي يعرف أن السحر من أوصاف البيان, والأصل في السحر أن يقدم الأباطيل وهي في مرآي العين حقائق لا أباطيل ؟ هل سمعتم بالرحي التي تطحن القرون؟ هي( فلان) في بعض نثره القعقاع!. يندر أن نجد في نثر هذا الرجل صفحة خلت من التكلف, ويندر أن تشعر بأنه خلا لحظة الي قلبه يستلهمه ويستوحيه, فهو مشدود في كل وقت بزمام التفصح الثقيل, إلي أن يثور علي حرفة الكتابة فيرسل نفسه علي سجيتها الأصيلة, وذلك لا يقع منه إلا في أندر الأحايين. ثم يقول زكي مبارك عن هذا( الفلان) الذي أخفيت اسمه لبعض الوقت وهو عبدالعزيز البشري: كان يستطيع أن يكون كاتبا عظيما, لأن لهذا الرجل ذخيرة منسية من الفطرة والطبع, ولو أنه استجاب لوحي روحه لأتي بالعجب العجاب, ولكنه تكلف مالا يطيق فأضيف إلي المتحذلقين. ويسائل زكي مبارك نفسه قائلا: ولكن ما الموجب لمواجهة هذا الكاتب الفاضل بهذا النقد الجارح؟( وكان البشري قد نشر مجموعة من مقالاته في كتاب عنوانه: المختار, فكتب عنه زكي مبارك هذا الكلام). ويرد علي سؤاله لنفسه بقوله: هو الموجب الذي أفسد ما بيني وبين المرحوم مصطفي صادق الرافعي, وكان من كرام الكاتبين. فأنا بصريح العبارة أتهم أهل التكلف وأراهم أطفالا في دولة البيان. وليس معني هذا أني أنكر قيمة الصياغة الفنية, فالكتاب الكبار قد يشقون في تحبير ما يكتبون أعنف الشقاء, ولكنهم ينتهون إلي عرض آرائهم بأساليب هي الغاية في الوضوح والجلاء, فلا يتوهم أنهم عانوا عنت الإنشاء وقد هاموا علي وجوههم في تجاليد الليالي. هل سمعتم بالسمك الرعاش الذي لا يوجد في غير نهر النيل؟ هو سمك كسائر الأسماك, ولكن فيه قوة كهربائية. وكذلك الكلام البليغ, هو كلام كسائر الكلام, ولكن فيه قوة كهربائية وصلت إليه من ثورة الروح أو فورة الوجدان. ثم يضيف زكي مبارك في لهجة حاسمة: ليست القوة في اللفظة اللغوية, اللفظة التي يدلنا المجمع اللغوي علي قبرها المجهول, وإنما القوة في اللفظة التي يحلها روح الشاعر أو الكاتب فتصبح محملة بالمعني الفائق والخيال الطريف. فكيف جاز للشيخ البشري أن يمن علينا بأنه أحيا بعض الألفاظ من موت وهو لم يسكب عليها قطرة واحدة من دم القلب؟. هذه الجرأة في التناول, وهذه الصراحة في قول ما يراه حقا, وهذا النقد اللاذع لكبار أدباء جيله, هي التي أدت به إلي النفي والإقصاء باعتباره كاتبا متمردا خارجا علي السياق. لكنه في حقيقة الأمر كان في قلب السياق وجوهرة واحدا ممن ينشدون شرف القول, ويجهدون من أجل الحقيقة مهما كلفهم ذلك. المزيد من مقالات فاروق شوشة