كنت أسمع أبي يلعن من اخترع الهاتف , لأن الناس أصبحت تكتفي به – حتى في الأعياد – كبديل عن الزيارات .. كانت أمي تهز رأسها باستهزاء قائلة : ناقص يبعتوا الكحك ف جوابات ! منذ أن بدأت استخدام الإيميل وانا أفتقد رائحة الخطابات .. الورق الذي نتفنن في تنسيقه وتلوين حوافه قبل إرساله .. الأشكال الكرتونية التي كانت “ مارجريت “ تحب أن تختم بها خطاباتها .. الحروف الصينية التي ترسمها “ ليو” بمهارة ..وهدايانا البسيطة من عملات محلية وصور سياحية نرفقها بالخطاب .. باختصار توقفت عن هواية المراسلة تماما وصارت الإيميلات كطلقات الرصاص , نتبادلها بسرعة وبشكل شبه يومي فتخرج خالية من التفاصيل ..لم يعد هناك وقت لاختزان التفاصيل أو التفكير فيها .. عندما كنت أكتب لمارجريت عن أشرف , كنت أعيد اكتشافه من جديد .. كنت أحلل تصرفاته وأرى المواقف التي جمعتنا معا بشكل أوضح . لم تفاجئ هي بانتهاء علاقتي به بعد آخر رحلة قمنا بها قبل الامتحان بشهرين .. كتبت لها كل ماحدث , ورغم النبرة الانفعالية العالية التي كنت أكتب بها جاء ردها هادئا وغير متفاعل , مما أرجعته حينها لبرودها الإنجليزي الطبيعي . بمرور الوقت أصبحت الإيميلات بيننا من نوعية : الأمور تسير كالمعتاد , ذهبت لتناول القهوة مع جدتي .. ثم لم أكتب إليك لأنه لم يحدث شيئ جديد يستحق ان أحكيه .. لم اكن أدري أن الغد سيحمل ماهو أسوأ , فرغم جمود الإيميلات إلا أننا كنا لا نزال واقفتين عند نقطة التواصل المقصود , أن تكتب هي إلي وأكتب إليها , وليس أن أقرأ ما كتبته هي غير موجهة رسالتها لأي أحد .. ............................................. الفيسبوك يصلك بمن حولك .!!. كانت مارجريت تضع من حين لآخر أغنية تحبها أو صورة لها في مناسبة ما مع أصدقائها, بينما أنا وأصدقائي – المحليّون – كنا أكثر تعبيراً وكشفاً , نكتب تقريبا كل يوم ما يدل على الحالة المزاجية والسياسية والعاطفية بل وربما الطقس أيضا .. يزداد في كل يوم عدد الأسماء والصور على قائمتي , حاملاً شغف اكتشاف شخص جديد , رجل او امرأة . ............................................. “ ما الذي يدور في رأسك ؟” كان أشد الأسئلة مكراً .. كنت أسجل في رأسي كل موقف يحدث لي لأرى كيف يمكنني كتابته على صفحتي بشكل جذاب .. ليس في تفاهة وسطحية مريم , مريم العبيطة التي تسمي نفسها “ أمورة حتتنا “و التي ما إن تكتب : أوف كيف تكون الحرية بدون تناول الملوخية , حتى تحظى بعدد لا نهائي من التعليقات والإعجاب . لا ..لم أكن اغار من مريم , ولا غضبت منها لما صادقت محمود ..محمود أساسا شخص سمج في الحقيقة وقد قابلته مرتين أو ثلاثة في النادي . ورغم أنه كان لطيفا جدا في تعليقاته وأنيقا في كل ملاحظاته , لكن حين قابلته لم يكن بنفس وسامته في الصور رغم أنه لم يكن قبيحا أيضا .. كان مقبولاً إلى حد ما, ولكن ما إن بدأ يتكلم حتى أحسست بلزوجة كريهة تسيل من بين شفتيه , كان يريد ممارسة الحب من اللقاء الأول ,بينما كنت أريد أن أخرج معه أكثر من مرة لأطمئن لقدرته على إسعادي أنه جاد فعلا في الارتباط بي وأن ما بيننا لن يبدأ بقبلة وينتهي بمغادرة الفراش .. لم يكن محمود ليحيد عن هدفه ولم يكن أيضا ليضيع وقته في كلمات لا قيمة لها كما وصفها “ الفعل لا القول يا حبيبتي هو الفيصل “ ظللت مترددة , فكان أن كتب بعد يومين “ أفضل ما تمنحه لحبيبة مترددة هو نسيان واضح- منقول “ حدث هذا في نفس اليوم الذي أضاف فيه مريم لقائمة أصدقائه . محمود ذكي رغم أي شيء , وهو يعرف جيدا كيف يتصيد اللحظة التي يقتحم فيها المرأة ...حين تبدأ في الكتابة عن الفقد والأسى والحب الضائع , ثم تضع على الصفحة صورا دامعة وقلوب وشموع , يبدأ هو أيضا في عزف نشيد الوحدة والأسى , والأم التي فقدها مبكرا ومازال يحن لحضنها وحنانها . في الوقت الذي ظهر فيه كريم كنت أنا أضع صورة فاطمة الباكية التي تحاول الابتسام رغم كل الوجع والظلم والقهر الذي تعانيه , وكريم له شعر طويل وجذاب تماما مثل كريم المسلسل التركي الشهير.. ...بدا كريم جذابا ومرحا جدا , كنت أضحك كثيرا من تعليقاته , ولكن للأسف لم يكن لقاؤه سهلا بسبب إقامته خارج البلاد ............................... أعرف أنه لا يفسد سعادة الأنثى سوى أنثى ...لذا فكل بنت تظهر هي غريمتي إلى أن يثبت العكس .. ولذلك اخترعت شخصية شادي كسلاح أخرجه وقت اللزوم . أدخلته دائرة أصدقائي باعتباره ابن عمي , ليغازل البنات اللاتي أرغب في إقصائهن . عندما اكتشفت أن كريم أضاف مريم لقائمته , بدأ نشاط شادي على الفور ..جعلته يتقرب إلى مريم مستغلة ما أعرفه عن طباعها, لم يستغرق الأمر سوى أسبوع حتى كان كريم قد حذف مريم من قائمة أصدقائه وعاد ليتحدث معي بالساعات قبل أن ننام.. لم يطل الوقت حتى ظهرت ناني بصورها الساخنة وأغنياتها المفرطة في الشوق والولع ...وبالطبع غاب كريم متعللا بمشاغل العمل وتضييق الرقابة عليه من زوجته .. ............................................. تتفرس يوميا في صفحة ناني تسجل ما كتبت وماذا أعجبها وكيف علّقت ..تشك كثيرا في أنها لا أحد سوى مريم جاءت لتنغص عليها سعادتها ثانية .. أسبوع آخر وظهر منير ..الأربعيني الحنون ال « فيري جينتل مان » ..كان في غاية الرقة والتفهم ومحاولة مساعدتها على تجاوز ما تحكيه له من مشكلاتها «الفظيعة » والتي يقنعها في النهاية أنها لا تستحق . ما كان يدفعها للشك في منير هو اقتران ظهوره واختفاؤه بوجود ناني – التي تشك أساسا في كونها مريم – عدا وقت الظهور والاختفاء لم يكن هناك ما يدعو للشك , ولكن رغم ذلك باتت تتلوى من الحيرة يوميا ...من لحطة ما تستيقظ حتى تنام فهي تفتش بدأب في صفحات مريم وكريم وناني ومنير وأيضا محمود لعلها تجد ما يكشف لها حقيقة ما ...حقيقة واحدة فقط ............................................. لو لم تكن مريم زميلتها في الكلية لشكت في كونها شخصية حقيقية أيضا . أصبحت تشك في كل شيء ..تشك فعلا أيهما العالم الحقيقي وأيهما الافتراضي .. تحول الناس لأسماء وصورلا تدري شيئا عن وجودهم الفعلي في الواقع .. صديقتها ..هل هي فعلا صديقتها أم صديقة حبيبها جاءت لتكشف سترها .. حبيبها ..هل هو فعلا حبيبها أم حبيب صديقتها أم شقيقها وقد انتحل صورة وصفة اخرى تبا لكل هذه الافتراضات ! لم لا تموت ببساطة وينتهي الأمر ؟! الموت أصبح سهلا كالحب .. ما عليك قبل أن تموت سوى أن تترك الباسوورد لورثتك وتوصيهم برد الإيميلات بانتظام , والاستمرار في إعطاء الميسد كول وإرسال الرسائل النصية القصيرة من حين لآخر . لن يلاحظ أحدهم الفرق ولن ينتبهون لموتك سوى بعد وقت طويل جداً ..ربما عندما يمر الزمن ولا تضيف لهم صورا جديدة .