في عام 2013 واثناء احداث الثورة وفي مقهي بحي «معروف» جلسنا، ولم أكن أتصور اننا سوف نقابل هناك وبسرعة كل روافد مصر الموسيقية عبر التاريخ : الفرعونية والعربية والتركية والاوروبية ! كان بعض جلوس القهوة يلقون اهازيجهم من شعارات الثورة المصرية ثم امسك احدهم بعود وزميله بجيتار بينما راح ثالثهم يطلق صوته «المطرب» فيما يشبه الموشح : آمان ياليل .. الحبيبه تايهة في ليل .. آمان ياليل وأطال هذا المطرب كالعادة في محاولته الفاشلة التأليف على طريقة الموشح واستعادة الموشح (ظنا منه أن استعادة الماضي ممكنة في الفن) ولكن .. لم يلبث ان شق هدوءه زعيق جماعة من المتظاهرين وهم سائرون بوسط الطريق ، حاملين على الاكتاف منشدا حارا وساخنا الي حد الغليان، يقود الغناء ممسكا بطار كبير والسائرون خلفه يرددون من بعده : المنشد آه يالالي - يالالي - يالالي السائرون مصر ح تفضل ف العالي وقد أسكت لهيبهم مطرب «الموشح» وأصابه بحرج شديد وعازفيه الذين نكسوا آلاتهم مشمأزين من تدخل هؤلاء «الهواة حاملي الطار» ، ولكن حاملوا الطار استطابوا الوقوف امام القهوة متوجهين نحو جمهورها فتذمر أهل «الموشح» دون جدوي .. وفي النهاية سار أهل الطار على انشادهم وأصحاب الموشح على غنائهم .. معا في وقت واحد ! اغرق هذا الضجيج - الطار من ناحية والعود والجيتار من ناحية - الذهن في فكرة منابع هذا الخلط ... من اين جاء كل هذا ؟ تعالوا نجذب الينا واحدا فالثاني من عناصر هذا الضجيج : العود الذي بيدهم جاء الي مصر من فارس مرورا بالجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي. ورغم ان له نظيرا فرعونيا قديما «الطنبور» إلا ان صورة العود الحالي ومضمونه - أي النغمات التي يحملها – ذات أصل إيراني دامغ (كما تقول كتابات استاذنا د يوسف شوقي) الكلمات «آمان ياليل .. أمان « لملء الفراغ الناتج عن النغمات الممتدة كثيرا في اللحن ، هي تقليد تركي شهير في الموسيقي الغنائية وهدفه إطالة اللحن فوق حدود الكلمات بإضافة ألفاظ ليس لها معني مثل : جانم ، عمرم ، ليل ، وحتي تصبح الكلمات الحقيقية قليلة ومكثفة واللحن ممتدا . الطار المصري المستخدم لدي المتظاهرين والمعمول به الآن ينتسب تمام الانتساب للموسيقي الفرعونية، بل يبدو للناظر وكأن هذا الطار قد انتزع من مقابر الفراعنة لتوه ! ونستطيع رؤيته وبنفس حجمه وشكله هذا محفورا على جدران المعابد بجوار أهرامات الجيزة وداخل حوائط معبد فيلة بأسوان، وفي جداريات الفراعنة وهم يحملونه سائرين به : يد تحمله ويد تقرعه، تماما كما نفعل نحن الآن ودون ادني تغير في وضع القرع ! ذلك من الأمور المدهشة والدالة بوضوح على وحدة تاريخ مصر. الجيتار والذي في يدي عازف القهوة - أوروبي الشكل والحجم والصناعة (لا يصنعه احد داخل مصر) وأوروبي النغم المتضمن وهذا هو الأمر الأخطر، بل وطريقة العزف وكيفية حمله وعدد أوتاره والدساتين (علامات وضع الأصابع على رقبة الجيتار) وكل شيء! ولا غرابة في ذلك فالآلة الموسيقية لا تهاجر إلا حاملة أنغام وطنها! والجيتار لم يأت الينا إلا محملا بكامل نغماته الأصلية أي بكامل مضمونه ! كيف لا يحملها الجيتار وهو قد شق وتشكلت ملامحه ومسافاته واحجام اجزائه خصيصا ليحمل نغمات وطن بعينه ؟ ثم كيف للجيتار بعد ذلك أن يحمل نغمات وطن آخر كمصر؟ اننا لو أخذنا في مصر بطريقة تاليف أوروبية كقالب «السيمفونية» أو «الكونشيرتو» أو استعرنا إيقاعا لاتينيا مثل «السامبا» فإننا نتخذ عنصرا واحدا من عناصر الموسيقي الأجنبية، آما استعارة آلاتهم (كالجيتار) فيعني استعارة كل عناصر الموسيقي لديهم ! ذلك لأن الآلات تحمل كل شيء (من ايقاع ولحن ومسافات ومقامات وثبت الأنغام المستخدمة) . لهذا تحيا آلات كل شعب – وهي تضم قواعده - حقب تاريخية طويلة دون تغير، وإذا تغيرت فإن كل قواعد اللغة الموسيقية الوطنية تتغير! الإيقاع الصادر عن الطار كان منقسما إلى ظغوط قوية تدعي « دم « تضربها كف العازف في وسط الطار ، وأخري ضعيفة تدعي « تك « تضربها أصابعه دون الكف على الحافة. والايقاع بذلك أشار الي أصول عربية قديمة تعود الي زمن الفتح العربي. والواضح ان تاريخ مصر قبل العرب – وفقا لما تعرفه الوثائق - لم يعرف ضغوطا قوية وأخري ضعيفة ثابتة ! لم يكن الفراعنة قد ثبتوا الضغوط داخل ايقاعاتهم (الوثائق لم تظهر شيئا آخر)! أي أن الضغوط لم تأت عندهم في نفس المواضع دائما، وانما كانت تتحرك عفويا .. وقد عرف التاريخ «استقرار الضغوط» عند العرب، وبالتالي رسخت ايقاعات العرب وتشكلت منظومة «ضروب» عربية وصلت صورتها الينا! أليست هذه من الغرائب ! أن تصل مقهي حي معروف البسيط وتتزاحم أكبر خمسة روافد من التاريخ: طار الفراعنة عود ايران ألفاظ التقليد التركي - جانم / آمان/ ليل نظام ايقاعي عربي الأصل (ذي ظغوط ثابتة لا تتبدل) جيتار أوروبي بكامل نظم النغم الأوروبية! اشتبكت عند المقهي تيارات التاريخ الكبري ! والمذهل اننا – رغم مشاكل الاختلاط - شاهدنا نغما مصريا حتي النخاع في لحن : آه يالالي- يالالي- يالالي مصر ح تفضل ف العالي عجبا لهذا الشعب الكبير الذي يتوحد مع ان العالم بداخله يتصارع! عجبا له حين يأخذ من كل الحضارات ويمضي دائما بوجه واحد! لقد تركت كل سنوات الانسان على الارض علاماتها الغائرة على جبيننا العريض.