فيه يسمي» كمال خليل»نفسه « الغريب»، مع أنه من أعزّ «أهل الدار»، ويقُص علينا أخبارا من طرف «الحركة الطلابية» في عقد السبعينات المؤلم، الذي تم فيه اقتحام الأمن الجامعات واعتقال القيادات الطلابية. وإطلاق الجماعات المتشددة والمخبرين عليهم، واستخدام الجنازير والمطاوي ضد المقالات والأفكار، وفتح الانفتاح لبوابات الفساد لتلتهم انتصار أكتوبر ومكتسبات ثورة يوليو، واتاحة المجال أمام أمريكا لتمرح في المنطقة ومصر ، وصناعة سلام مع إسرائيل علي حساب الثوابت الوطنية. كنا نعرف شذرات غير كافية من التاريخ الشخصي ل» الغريب» تبيِّن أسباب انحيازه للمستضعفين، ومناصرة العمال، ودعم كافة الفئات في احتجاجاتها، ولماذا يجئ دائما في الوقت المناسب، ليستنهض الهمم، ويشد العزائم، ويبلور المطالب، ويتحدي الأمن الموجود فى كل وقت . يقول في كتابه» حكايات من زمن فات«: «في الإضرابات والاعتصامات يكون للجماهير قوتها وابداعها. شئ عظيم لا تُحسَّه إلا وأنت بينهم». وربما تكون هذه الجملة من مفاتيح أو المكونات الأساسية لشخصية « كمال خليل»، صاحب الشعارات المهيمنة، المنطوية علي موهبة شعرية، ، لكنها لا تتخلي عن مستوي ثوري مباشر،حتي لا تنتقل إلي مستوي إبداعي خالص يضعف علاقتها بالمتظاهرين. ولقلة معرفتي بحياته ونشأته كنت أتساءل : «من أين له هذه القدرة علي الصمود، وهذا الدأب؟ وأخيراجاوبني هذا الكتاب . يقول لنفسه : «الشجاعة هي نقطة البداية .. كسر حاجز الخوف والتردد عند كل إنسان هو ميلاد جديد «.وسأل نفسه سؤالا حاسما :» أيهما كان أهم : اتزان مجموعة من القوى المستوية في محاضرة الميكانيكا .. أم اتزان مجتمع بأسره ؟». ومن وقتها، وإلى الآن، وحتي بعد ثورة يناير العظيمة لا يزال منحازا ل « المجتمع بأسره». فكما وجد «الغريب» إنسانيته في حارته ب « داير الناحية» وسط الفقراء بكل غُلبهم، وصدقهم، عرف هدفه في الجامعة وحسم أمره، وترك محاضرته، وانحاز للحريات، وحقوق العمال، وكافة طوائف الشعب. وكما تباهي بأشقائه العُمال والصنايعية، الذين علموه قيما إنسانية ونضالية، جعلته يعبَّر عن امتنانه لهم، ويعترف بفضلهم عليه، وتعاون مع رفاق الحارة في مقاومة الفقر قدر امكانهم، مثل تكفين المتوفي «محمدسيف» المُعدم، وربما كانت هذه التجارب الأولية البسيطة سبب ميله إلي العمل الجماعي، ومساعدة المحتاجين، وتشكيل فصول محو الأمية، وتنظيف الحارة من أكوام القمامة المتراكمة، وهي التجربة التي إلتقي فيها لأول مرة المؤرخ « محمد أنيس»الذي تعلم منه الكثير. وبامتداد الخط التحق»الغريب» بالجامعة، وانغمس في الحركة الطلابية في عز تجلياتها،وكانت قد اكتسبت زخمها من نهاية الستينات، ونضجت في بداية السبعينات، وانهمك في كتابة مجلات الحائط، وتنظيم التظاهرات، إلي أن قرر طلاب « هندسة القاهرة» بدء اعتصام الطلاب الشهير في يناير 1972، والذي انتقل إلي بقية الكليات، ثم إلي القاعة الكبري داخل الجامعة. وكان كمال خليل يحفز زملاءه قائلا : يا أخونا في الميكانيكا ..سيب العلم والاستيكا سيب الكمرة والعمود ..لجل أخونا م القلعة يعود يقول الغريب في كتابه :» استمر الاعتصام ليلة الثلاثاء ويوم الأربعاء. وفي مساء يوم الأربعاء حضر إلينا وفد من طلاب الكليات المختلفة بجامعة القاهرة. رئيس الوفد وزهرة شباب الحركة الطلابية والذي لم يكن يعرفه أحد وقتها والذي أصبح رئيس اللجنة الوطنية العليا للطلاب. تحدث أحمد عبد الله رزة قائلا بصوته المهيب والجليل: أنا زميلكم بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. لقد اتفقنا جميعا وبعد مشاورات طويلة داخل الحرم الجامعي والتي ضمت أناسا من كليات مختلفة كما ضمت زملاءكم من لجنة الاتصالات بالاعتصام علي نقل الاعتصام من كلية الهندسة إلي الحرم الجامعي. وفي صباح الخميس غدا سندخل جميعا قاعة الاحتفالات الكبري لجامعة القاهرة من أجل توحيد الاعتصام ليصبح اعتصام طلاب جامعة القاهرة بدلا من اعتصام طلاب هندسة القاهرة». وتم انتخاب خمسة ممثلين لكلية الهندسة هم : أحمد بهاء الدين شعبان، وسهام صبري، ومحمد أبو الوفا، وكمال خليل، وخامس لم يتذكره كمال خليل، واختير أحمد بهاء ممثلا لكلية الهندسة في اللجنة العليا لطلاب جامعة القاهرة، وزحف الطلاب صباح الخميس 17 يناير 72 واحتلوا قاعة الجامعة بكل مكوناتها، ومطبعتها، وأصبح الاعتصام للجامعة، وانضم إليه أكثر من سبعة آلاف طالب. وتشكلت لجان مماثلة في جامعة عين شمس، وبرز اسم « احمد عبد الله رزة» و» سهام صبري» « كالقمر في سماء الجامعة والمجتمع»، و» كقائدين جماهيريين حينما يتحدث أي منهما في قاعة الجميع ينصت إليهما الجميع»، وضربا مثالا رفيعا في « فن التحريض وفن المخاطبة»، وشغلت الحركة الطلابية ككل الرأي العام في مصر بقوة، مما سبب قلقا كبيرا للسادات ونظامه. وأصدروا « وثيقة الحركة الطلابية»فعرض النظام علي الطلاب إرسال وفد منهم إلي مجلس الشعب لمناقشة مطالبهم، واستجابت اللجنة، وذهبوا، وخاضوا مناقشة، وبرز دور أحمد عبد الله رزة وسهام صبري في هذا اللقاء، و» انتهي النقاش بطلب متواضع من الطلاب :»نحن مستعدون لفض الاعتصام فورا إذا أخذنا وعدا بنشر الوثيقة الطلابية في الجرائد الحكومية حتي يعرف الشعب مطالبنا، والتي ليست مطالب فئوية، وإنما هي مطالب عامة تخص المواطنين جميعا عن حالة اللاحرب واللاسلم وحرية الصحافة والافراج عن المعتقلين .. إلخ». ومن الهتافات التي كان يرددها كمال خليل لتحفيز زملائه قصر الوالي يا ناس مش دارى بهّم الفقرا فى الحواري شربوا الفقر المر سنين يا ما ليالي باتوا جعانين ها نحارب إمتى مش عارفين كذب رئيس مجلس الشعب وقتها ومن معه علي الطلاب، ووعدوهم بالاستجابة، وزادوا أنهم سيذيعونها في الإذاعة، وخدعوا الطلاب، وراهنوا علي فض الاعتصام نتيجة لاقتراب العيد، وقبل أن تنكشف خدعتهم كان أكثر من ستة آلاف طالب غادروا الاعتصام إلي بيوتهم ظنا أن الوثيقة ستنشر وتذاع، لكن النظام كان يخبئ للطلاب مفاجأة مؤلمة. اقتحمت قوات الشرطة الجامعة فجر 24 يناير 72، وحاصرت القاعة الكبري بإحكام. يقول « الغريب» : « أمسك زعيمنا وقائدنا «أحمد عبد الله رزة» ميكروفون المنصة وألقي أجمل الكلمات : « أيها الشباب. لن نقاوم.ألقوا العصي والفئوس القليلة علي الأرض. القوة غير متكافئة. نحن عزل وهم مدججون بالسلاح. نحن أصحاب قلم وفكر. نحن أصحاب مبادئ. معركتنا مستمرة معهم. سنراهن علي جماهير الطلاب وعلي الحركة الطلابية. قد نستسلم لهم في هذه اللحظةأمام جحافل قواتهم. لكن الحركة الطلابية لن تستسلم ولن تلين». « إخواني الطلبة.. مشوارنا لسه في أوله .. وما دام بدأنا نكمله». ويسجل « كمال خليل» مشهدا لا أجد له نظيرا حتى في السينما، ومن يريد أن يأخذ مثالا باهرا للحركة الوطنية فلن يجد أجمل منه تاريخ مصر، ففي « غُبشة» الصباح :»رفع أحمد عبد الله يديه إلي أعلي ليشكل أول طابور للمعتقلين. خرجنا جميعا رافعين الأيدي والرؤوس وسط الجنود المدججين بالسلاح. خرجنا من القاعة إلي الحرم الجامعي في طابور فردي طويل وشبورة الصباح تملأ المكان. وفجأة انطلق وبدون ترتيب وبشكل تلقائي صفير بالفم من أحد الطلاب اتبعه الجميع. نغمة الصفير تنطلق من بين شفاه الألف معتقل تغرد : «بلادي بلادي بلادي .. لك حبي وفؤادي». وكان اعتقال الطلاب كافيا لإثارة زملائهم، فخرجوا في مظاهرات صوب الجامعة، فمنعهم الأمن، فاتجهوا صوب ميدان التحرير، وعرف الألف معتقل بأمرها فشدت عزيمتهم، وتعالت هتافاتهم، فأخذوهم إلى سجن معهد أمناء الشرطة، وفرقوهم علي الزنازين، وبدأوا في الإفراج عنهم تباعا، والمدهش أن آباء الطلاب المعتقلين من البسطاء لم تكن وطنيتهم أقل من أبنائهم، فحين أفرج عن كمال خليل وسمير الشربيني ولم يفرج عن شاكر زميلهم الثالث من « داير الناحية»، ذهبا إلي أبيه أولا قبل ذهابهما إلي بيتيهما، فأخفي حزنه على ابنه وقال لهم بتماسك : « وماله .. طالما يا كمال انت وسمير رجعتوا كأن شاكر رجع . أوعى أشوف دمعة في عنيكم،». وشهد عام 1973 تحولا فارقا وكبيرا وفق وصف» الغريب» هو : التحالف والتنسيق المباشر بين مباحث أمن الدولة والتيارالاسلامى»،»حيث كان الأمن المركزى خارج الجامعة مسلحا بالخوذات والعصى والقنابل المسيلة للدموع،وكان التيارالإسلامى داخل الجامعة مسلحاً بالمطاوى والجنازير». أو كما أسموه هم بالضلال»حزب الله في مواجهة حزب الشيطان». يقول :» لقد استلهم النظام خبرة ودرس الحركة الطلابية في عام 1946حينما تحالف اسماعيل صدقي مع الأخوان المسلمين، وجعلهم يشكلون « اللجنة القومية للطلاب» في مواجهة» اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» واستخدموا الأسلحة والجنازير ضد الطلاب». وازدادت شراسة النظام، وبالضرورة تفشَّت تنظيمات الاسلام السياسي، وتوحشت، ومن ساعتها وإلى الآن تنقَّل « الغريب» من مظاهرة إلي أخري، ومن حبس إلي اعتقال، ومن سكن إلي غيره، ومن منطقة إلي مدينة، لكنه ظل ثابتا علي انحيازه للحريات، وإلي العمال والطلبة، وزاد إيمانه بأن التواجد وسط الجماهير أفضل وأفعل من أي تنظير، وأن حقوق الناس لا تتحقق إلا بانتزاعها، وأنهم يجب أن يخرجوا للدفاع عن أنفسهم، وإن ظلُّوا بحاجة لقائد نضالي صنديد مثله، بجانب وعيه السياسي، يبلور المطالب الواضحة في صياغات شعرية، مباشرة،بشرط السلاسة والعذوبة، ويبرهن للجميع أن الهتاف الصادق لا يضيع، بل يَطِنُّ بإلحاح في الضمائر، فيريح المظلوم ويدعم يقينه، ويقلق الظالم ويَقَضُّ مضجعه. عنوان كتاب «حكايات من زمن فات « خادع وغير منصف لصاحبه ولا مضمونه،لأن حكاياته أعمق وأنبل، ولا تنتمي للماضي فقط، وتتجدد بتجدد الحياة ذاتها، وطالما بقيت أشواق الشعوب إلي الحريات، والصراع بين أصحاب المطامع، وأصحاب العرق، وما دام هناك مناضلين مثل هذا « الغريب» الحاني، يترفق بالفقراء، ولا يحمل ضغينة شخصية للأغنياء إلا بقدر ظلمهم، ولا يعادي سلطة إلا بقدر استبدادها، ليسطر لنا سيرة تقطر كل هذا الصدق. وفى النهاية نتساءل :كيف يشعر هذا الذائب فى المجموع بالغربة ولماذا سمى نفسه بالغريب ؟ الكتاب لا يجيب الكتاب حكايات من زمن فات الناشر : «بيت الياسمين». عدد الصفحات :319 صفحة