في صبيحة أحد ايام عيد الفطر منذ سنوات ليست بعيدة, وفي زاوية تقع أسفل إحدي عمارات مدينة نصر وقف شاب نحيف صغير السن يخطب في الناس خطبة العيد. كان يرتدي جلبابا أبيض وعلي وجهه لحية لم يكتمل نموها بعد. تحدث الخطيب الشاب- في لغة لا تخلو من أخطاء متعددة- عن زكاة الفطر فأمر الناس بأن يخرجوا زكواتهم من غالب قوت أهل مصر. ومن أخرجها نقودا فكأنه لم يخرج زكاته. فهكذا أمرنا الفقهاء ولم يقل بإخراجها نقودا سوي أبو حنيفة وقد أخطأ خطأ كبيرا. وبعد الصلاة اقترب منه أحد المصلين يلومه ويذكره أن المنابر لم توجد لأن نسب من عليها أئمة المسلمين. ولكن الشاب لم يتراجع وقال أين أبو حنيفة من ابن حنبل أو ابن تيمية أو ابن قيم الجوزية حتي نسمع كلامه؟! وانتهي الحوار وقررت ألا أصلي في زاوية بعد ذلك اليوم. ولكنني وجدت اشياء من هذا القبيل في المساجد والجوامع أيضا. واليوم أجد نفسي ممتنا للدكتور وزير الأوقاف علي قراره بمنع صلاة الجمعة أو العيدين في تلك الزوايا التي أنشئت خلسة وتسرب إليها أشباه المتعلمين يخطبون في الناس بلا علم ولا روية. وربما كان قرار الوزير الشجاع جزءا من رؤية عامة يسعي جاهدا فيها لضبط أداء المنابر بعد أن اجترأت علي الدين وعلي السياسة معا حتي أصبحت المنابر أحد أهم مصادر الفتنة الدينية والاجتماعية والسياسية في بلادنا. ومهمة وزير الأوقاف في ضبط أداء المنبر ليست سهلة ولا ميسورة. فمن ناحية يتعرض الرجل لهجوم يتهم فيه بأنه من علماء السلطة وخدم السلطان الراغبين في تأميم الفكر الإسلامي. وليت هؤلاء يدلوننا علي سنة واحدة من سنوات خير القرون أو مسجد واحد لم يكن فيها المنبر خاضعا لسلطان الخليفة في المدينة أو دمشق أو في عموم التاريخ الإسلامي كله. ومن ناحية أخري فإن المنابر عبر التاريخ إما كانت رافدا لقوة المسلمين وجمع كلمتهم وإما كانت مصدرا للفتنة. فكم قتلت المنابر وأسالت الدماء من المسلمين بسلاح الكلمة. وأخيرا يظل المنبر أحد أبرز مشكلات الاتصال الديني والسياسي في كل التجمعات الإسلامية. فقد عاش المسلمون زمنا لايعتلي منبرهم سوي خليفتهم أو أميرهم بحكم أنه يجمع في شخصه بين السلطتين الدينية والسياسية معا. ولذلك كانت الخطابة وسيلة الاتصال الأساسية التي تربط بين الحكام والمحكومين. وحينما أصبح للمسلمين خليفتان بعد مقتل عثمان بن عفان حدث أكبر انقسام في أداء المنبر وخطبائه حين استخدمت المنابر لمناصرة المتنازعين علي الخلافة حتي إن معاوية بن أبي سفيان أراد أن ينقل منبر النبي( ص) من المدينة إلي دمشق حتي يزيد من التأثير الديني لمآربه السياسية. واستطاع عبد الله بن الزبير بالمنبر وحده أن يحرك الجموع في الحجاز ضد الأمويين. ومنذ ذلك التاريخ بدأت مشكلات المنبر السياسية ولم تتوقف حتي الآن. ورغم هذه المشكلات فقد ظلت الخطابة الدينية من فوق المنابر مزدهرة حتي بدأ الضعف يصيبها في زمن العباسيين حين أصبح الخلفاء يخطبون من فوق المنابر بكلام غيرهم. فقد طلب هارون الرشيد من الأصمعي أن يعد خطبة يخطب بها ابنه الأمين يوم الجمعة وطلب إلي اسماعيل اليزيدي خطبة مماثلة يخطب بها ابنه المأمون. ثم بدأ الخلفاء يندبون من يقوم مقامهم في الصلاة والخطابة. وشهدت مساجد المسلمين المقاصير لصلاة الخلفاء والحاشية بمعزل عن العامة من رواد المساجد. وشيئا فشيئا هجر الحكام المساجد وأنشأوا الدواوين والمجالس يديرون منها أمورهم السياسية. إلا أن أعين الحكام ظلت ساهرة علي المساجد والمنابر لخطورة مايقال فيها فتولوا عمارتها وصيانتها والإنفاق عليها والرقابة علي ما يقال ومن يتحدث فيها. وفي عهد العثمانيين كانت خطابات تعيين الخطباء تأتي مختومة بخاتم السلطان للتأكيد علي أنهم ينوبون عن السلطان في الصلاة الجامعة. وخلال عشرة قرون علي الأقل من تاريخ المسلمين تراجع دور المنبر إلا في مناسبات بعينها وتحولت الخطابة من فن وقوة مؤثرة إلي طقوس شكلية فأصابها من التردي ما أصاب حياة المسلمين فانفصلت في مضمونها ولغتها عن حياة الناس ومشكلاتهم وأصبحت الخطابة مجرد تلاوات لنصوص من خطب قديمة. ربما كانت مصر وتركيا من أوليات الدول الإسلامية التي انتبهت إلي مشكلات المنبر والخطابة الدينية في الربع الثاني من القرن العشرين حينما ظهرت دعوات جادة انتقدت ممارسات الوعظ والخطابة الدينية ودعت للإصلاح. في تركيا اعتلي أتاتورك المنبر وانتقد الوعظ الديني وبعده عن أحوال الناس واللغة التي يستخدمها. وفي مصر ظهر كتاب الشيخ عبد العزيز الخولي عام1929 إصلاح الوعظ الديني وهو أول كتاب يظهر في التاريخ الحديث للمسلمين ينتقد الخطابة والخطباء وبلغ من تأثير هذا الكتاب أن صدرت منه خمس طبعات بسبب الإقبال عليه. وظهرت بعده دعوات كثيرة كانت آخرها دعوة الرئيس الأسبق حسني مبارك في نهاية تسعينيات القرن الماضي. غير أن الدعوة لإصلاح الوعظ الديني في العصر الحديث لم تكن تعني شيئا واحدا للجميع. فقد أراد أتاتورك استخدام المنبر لنشر مبادئه وجمع الأتراك من حوله بعد إلغاء الخلافة. وفي مصر أرادت الحكومة وجماعة الإخوان أن تستفيدا من إمكانات المنبر والخطابة لدعم برامجهم وخططهم. تلك الدعوات الإصلاحية انتهت إلي ظهور المحتوي السياسي بكثافة في الخطب الدينية للمرة الأولي بعد نحو عشرة قرون من الغياب النسبي. ومع بروز السياسة علي المنبر جاءت مشكلات جديدة ليس من السهل إيجاد حلول لها. فقد اتسع مفهوم السياسة ليشمل رغيف الخبز والمدرسة والعمل والمستشفي وبات من الصعب أن يتجنب الوعظ قضايا السياسة. لدينا تجربتان من تجارب الاستخدام السياسي المكثف للمنبر والخطابة الدينية: إحداها في عصر الرئيس جمال عبد الناصر والأخري في عهد الرئيس أنور السادات. كلاهما استخدم المنبر والخطابة من أجل أهداف سياسية وهو ما نرجو أن نتعرض له في مقالنا القادم. لمزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين