في مساء ليلة هادئة, شوارع بغدادية ساكنة بعد يوم من التفجيرات المروعة, يمشي الهوينا, ويتطلع بحزن إلي آثار الدمار الذي خلفه نحو عقد من الاحتلال الأمريكي لمدينته الجميلة, وبخطوات متمهلة راح صدام حسين الرئيس العراقي الأسبق يبحث عن تماثيله التي نحتها له في وقت ما من كانوا يحبونه أو يدعون حبه خوفا من بطشه لهم.. المهم أنه لم يجد أيا منها, فلم يكن يعرف هذا الهائم علي وجهه أنه في9 ابريل عام2003 قام عراقيون بتسلق قاعدة أشهر تماثيله في ميدان الفردوس بهدف تحطيمه, وقد تم لهم ذلك بمساعدة دبابة أمريكية سحبت التمثال الي الأسفل قبل أن يلحق به العديد من التماثيل والجداريات التي نشرها نظام صدام في عموم العراق لتتحول بأيدي شعبه الغاضب إلي أثر بعد عين. بعين الخيال يمكن أن نري هذا المشهد الذي أعاده للأذهان الاحتجاجات الحاشدة التي شهدتها العاصمة الأوكرانية كييف, ونجاح مجموعة من الأوكرانيين القوميين في تحقيق هدفهم المنشود الذي سعوا إليه طويلا بإسقاط تمثال فلاديمير لينين الذي نصب وسط المدينة منذ67 عاما, تعبيرا عن قطع كل العلاقات بين روسياوأوكرانيا. وأعلن الحزب الوطني سفوبودا مسئوليته عن الحادث, ووصفه السكرتير الإعلامي للحزب وعضو البرلمان بأنه نهاية عهد الاحتلال السوفيتي وبداية عهد إنهاء استعمار أوكرانيا نهائيا, بينما سارع عدد من المعلقين علي مواقع التواصل الاجتماعي بتشبيه سقوط تمثال لينين وسقوط جدار برلين عام1989, متجاهلين واقع أوروبا الموحدة اليوم بعد قرابة ربع قرن من تحطم الستار الحديدي السوفيتي, فالقارة العجوز مازالت تواجه العديد من المشكلات الاجتماعية كالأقليات والمهمشين والعنف الذي يتصدر المشهد الاقتصادي المتأزم.. الأمر الذي هيأ المناخ لعودة التيارات القومية اليمينية إلي الصعود من جديد. لقد رأي عدد من المحللين أن سقوط تمثال صدام حسين عام2003 كان إيذانا ببدء حقبة جديدة في تاريخ العراقيين والشعوب العربية بالنظر إلي صرعا إسقاط التماثيل والجداريات التي اجتاحت دول ما يطلق عليه اسم الربيع العربي, ففي تونس أفرغ المتظاهرون قدرا كبيرا من غضبهم تجاه حكم زين العابدين بن علي بتدمير تماثيله, وهو الأمر الذي حدث في سوريا رغم عدم سقوط نظام بشار الأسد بعد حيث قام الأهالي بتحطيم تمثال الرئيس السابق حافظ الأسد ردا علي القمع الذي قام به الابن بشار وقتل الآلاف من شعبه, وفي مصر أزاحت الاحتجاجات جداريات وتماثيل الرئيس السابق حسني مبارك, وفي ليبيا اقتحم الثوار منزل معمر القذافي في مجمع باب العزيزية وحطموا تمثاله الشهير. وبالعودة للمقارنات بين عراق2003 حيث اعتبر البعض سقوط تمثال صدام إيذانا بانتقال العراق من الدكتاتورية إلي الديمقراطية إلي أوكرانيا2013 حيث وصف مشهد تحطيم تمثال لينين بأنه الفصل الأخير في تبعية أوكرانيا إلي روسيا الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي-وبداية لانخراط الدولة السوفييتية السابقة في المجتمع الأوروبي والاستفادة من الإيجابيات الاقتصادية لهذا الاندماج. ولكن يجب أن يكون لنا وقفة هنا, فماذا كسبت العراق بعد عقد من الاحتلال الأمريكي وإسقاط الشعب تماثيل الدكتاتور صدام حسين, وما الذي يمكن أن تحققه أوكرانيا بعد تحطيم تمثال لينين؟ فبالنسبة لسنوات الاحتلال في العراق فقد خلفت حتي الآن-بلدا ممزق الأوصال, بات ملاذا آمنا لعدد كبير من التنظيمات الجهادية والإرهابية علي رأسها تنظيم القاعدة, أما أوكرانيا فهي واقعة بين شقي رحي من جانب الإرث السوفييتي الذي يصعب أن يتم إزالته أو محوه بمجرد تحطيم تمثال للينين خاصة مع رغبة الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين في كسر معادلة القطبية الواحدة للعالم, ومن جانب آخر الوعود الأوروبية بنيل عضوية الاتحاد وتسهيلات اقتصادية تمنحها الولاياتالمتحدةالأمريكية التي يسعي من خلالها المعسكر الغربي إلي اجتذاب عقول وقلوب الأوكرانيين, مع بعض التنويه إلي أفكار الديمقراطية والحكم الرشيد. والواقع أن ظاهرة تحطيم التماثيل ليست بأمر ابتدعه العراقيون أو الأوكرانيون, فبقراءة التاريخ نجد العديد من قصص سقوط تماثيل الرؤساء الذين ارتبطوا في أذهان شعوبهم بالقهر فمن تحطيم المتظاهرين الإيرانيين تمثال شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي عام1979 إلي إسقاط الحشود في منغوليا تمثال لينين البرونزي عام1990, وهو نفس ما جري في جورجيا عام1991 فبعد أن نالت استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام1991 قامت الجماهير بتحطيم تماثيل لستالين ولينين في جميع أنحاء البلاد..هكذا نجد أن الشعوب رأت في تحطيم الحجارة وسيلة عادلة للقصاص من جلاديهم. ولكن ما لا يستطيع أحد إنكاره أن هذه التماثيل تعبر عن مرحلة من تاريخ الشعب, ربما كان تحطيمها وسيلة للتعبير عن الغضب تجاه سنوات من الحكم البغيض ولكن المصالحة الاجتماعية وتحقيق التقدم لن يتحقق بمحاولة إزالة جزء من التاريخ وإنما بإيجاد قناعة حقيقية بقيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان.