عندما تنزل في مطار جنيف فإن أول ما تفكر فيه هو أن سويسرا هي البلد الوحيد في العالم التي تحكمها الديمقراطية المباشرة.. فأنت الآن في' جنة الديمقراطية' بالعالم.. ديمقراطية التعددية والمساواة وحق الشعب في اتخاذ القرارات. فالحكومات السويسرية نجحت عبر عقود متتالية في الترويج لنظامها السياسي المعقد باعتباره النظام الذي يمنح الشعب حق السيادة, حيث يصوت الناخبون ثلاث أو أربع مرات في العام الواحد في استفتاءات مباشرة علي القوانيين وتعديل الدستور.. ولكن يبقي السؤال لصحفي مصري هو هل هذا النموذج هو الأفضل وهل يمكن تطبيقه في مصر؟ أم أن الشيطان يكمن في التفاصيل والصورة البراقة لجنة الديمقراطية تخفي ما وراءها؟ ففي بلد جبال الألب- التي يقطنها حاليا8 ملايين نسمة- أسست نظامها السياسي في1848 عقب حرب أهلية محدودة انتصر فيها البروتستانت علي الكاثوليك( لم يتجاوز ضحاياها100 شخص بين قتيل وجريح!) وانتهت بتأسيس فيدرالية تضم حاليا26 كانتونا( جمهورية شبه مستقلة أو ولاية بالمفهوم الأمريكي) ولكل كانتون دستوره الخاص وقوانينه وبرلمانه ومحاكمه. وتحت حماية جبال الألب والصدفة والحكمة السياسية أحيانا نجت كانتونات سويسرا من الغزو أكثر من مرة أخرها خلال الحرب العالمية الثانية- التي أعلنت وقتها الحياد. ومنح هذا السلام' الدائم' سويسرا الفرصة للإبقاء علي نظامها السياسي دون الدخول في دوامات التحولات الأوروبية خلال مرحلة الحرب الباردة. ويشدد كل من تقابلهم من المسئولين السويسريين علي أن الحاكم هنا هو الشعب.. وهكذا تحدث الدكتور توماس ميليك للوفد الصحفي المصري في برن, مشيرا إلي أن لمواطني سويسرا حق اقتراح تعديل الدستور عبر جمع100 ألف توقيع لكي تخضع هذه المبادرة بالتعديل للاستفتاء الشعبي, كما يسمح للمواطنيين باخضاع القوانين التي يقرها البرلمان لتصويت شعبي( استفتاء) عبر جمع50 ألف توقيع فقط. كما يتضمن النظام السياسي المجلس الفيدرالي الذي يمثل السلطة التنفيذية ويضم سبعة أعضاء منتخبين من الجمعية الفيدرالية( البرلمان) كل أربع سنوات يتناول كل من اعضاء المجلس رئاسة البلاد لعام واحد فقط مما يجعل اغلب شعوب العالم لا تعرف اسم رئيس سويسرا( حاليا هو وزير الخارجية السابق ديديه بوخالتر) وأن الأحزاب الأربعة الرئيسية تسيطر علي المجلس الفيدرالي وتحكم وفقا لمبدأ التوافق بسبب خشية خضوع قرارتها للاستفتاء الشعبي وإدراكا منها أنه لن يتمكن أي حزب من الاستحواذ علي السلطة التنفيذية. وإلي جانب المجلس التنفيذي هناك الجمعية الفيدرالية التي تمارس السلطة التشريعية وتتألف من غرفتين الأولي هي المجلس الوطني ويضم200 نائب, ينتخبكل كانتون عددا من النواب بما يتناسب مع عدد سكانه( مثل مجلس النواب الأمريكي) والآخر هو مجلس الدول الذي تمثل فيه كل كانتون بنائبين فقط( علي غرار مجلس الشبوخ الأمريكي). ولكن في التفاصيل, فإن النظام السياسي السويسري ليست'يوتوبيا' توماس مور, فهذا النظام يجعل للأحزاب قوة استثنائية في منع القرارات حيث يمكن لأي حزب أن يجمع بسهولة50 الف او100 الف توقيع لمعارضة القوانيين وتغيير الدستور. مما يجعل آلية اتخاذ القرارات في سويسرا تسير ببطء شديد وتحول دون مبادرة الحكومة من جانب, ومن جانب آخر فإن إمكانية جمع آلاف التوقيعات غير ممكنة للأشخاص العاديين الذين لن ينفقوا الوقت والجهد لذلك, مما يجعل الاستفتاء في أغلب الأحيان أداة في أيدي جماعات المصالح المختلفة.. وفي النهاية فإن هذا النظام شديد التوافقية والممنوع من اتخاذ القرارات الحاسمة في وقتها' ينزع السياسة' من الحوار والجدل العام, وهو غير الممكن في اغلب دول العالم. ويستمر السؤال معنا, هل النظام السويسري يمكن تقليده مثلما حدث مع الساعات الفاخرة؟.. الإجابة لدي السويسريين' لا'. فالنظام السياسي لهذه الدولة الصغيرة استفاد من عدم خوض حروب وعدم وجود تناحرات اثنية واجتماعية حادة طوال المائة عام الماضية بالإضافة إلي صغر حجم سكان هذه الدولة الأوروبية الذي يتمتع أغلبهم بمستويات دخول مرتفعة تعد الأعلي في العالم. فنحن أمام دولة أغنياء تمارس الديمقراطية من أجل التوافق ولا تدخل في نزاعات إقليمية أو دولية. إن الحديث عن الأنظمة السياسية الاستثنائية يظل استثنائيا فنظام الديمقراطية المباشرة عبر الاستفتاءات في سويسرا تظل امكانيات تطبيقة لا تتعدي تجربة ولاية كاليفورنيا في الولاياتالمتحدة. ومحاولة استنساخه تصبح مخاطرة قد تقود إلي الهاوية.. ولكن بين الإنبهار بالنظام السياسي السويسري ومحاولة تقليده ومحاولات صنع' الديكتاتور' علي المقاس الوطني فإن هناك العديد من البدائل أهمها تعزيز المؤسسات الديمقراطية وبناءها علي قاعدة المشاركة والتوافق.. هذه المهمة قد تفسد أحلام الساعين' القابضة الدامية' والواعدين بحكم الفرد المنقذ. ولكن في عالم يمارس ديمقراطيته المباشرة الجديدة عبر قنوات التواصل الاجتماعي فإن بناء ديكتاتورية الفرد تماثل في وهميتها محاولة تقليد النظام السياسي السويسري.