رحل نيلسون مانديلا الزعيم التاريخي الذي قاد مع مناضلين رائعين, كفاح شعبه البطل ضد نظام الفصل العنصري المدعوم من الولاياتالمتحدة التي كانت تمارس بعض تلك السياسات العنصرية الدنيئة حتي ستينيات القرن العشرين. وعندما اضطرت هي وبريطانيا للتخلي عن النظام العنصري في جنوب إفريقيا تحت ضغط شعبيهما والعالم بأسره, اكتمل الحصار الدولي لذلك النظام المقيت, وبدأ في التهاوي تحت ضربات الشعب بالداخل والحصار من الخارج. قاد مانديلا النضال من أجل المساواة الإنسانية والسياسية, لكنه لم يمس ملكيات البيض ولا حتي أفضل الأراضي الزراعية والمراعي والغابات ومناجم الذهب والمعادن التي نهبوها من الشعب هناك, وبقي الحال حتي الآن كما كان عليه تقريبا, واستمر توزيع الدخل في جنوب إفريقيا واحدا من أسوأ أنماط توزيع الدخل في العالم, بل إنه ازداد سوءا عما كان عليه قبل تولي الزعيم الإفريقي العظيم نيلسون مانديلا السلطة عام1994, لأن نضاله اقتصر علي إنهاء الفصل العنصري وبناء الديمقراطية السياسية, ولم يمتد لتغيير النظام الاقتصادي-الاجتماعي لتحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة علي أسس عادلة تنهي نهب البيض والرأسمالية العالمية لموارد الأمة منذ العهد الاستعماري وحتي الآن. والنتيجة أن أفقر10% من السكان في جنوب إفريقيا الذين كانوا يحصلون علي واحد وأربعة أعشار في المائة من الدخل القومي عام1993( البنك الدولي, تقرير عن التنمية في العالم1997, ص241), أصبحوا يحصلون علي واحد واثنين من عشرة في المائة فقط عام2009(WorldBank,WorldDevelopmentIndicators2012,p74.-.76), مقارنة بنحو4% في مصر التي تتسم هي الأخري بنظام ظالم لتوزيع الدخل, لكنه أفضل من نظيره في جنوب إفريقيا, حتي برغم عدم دقة البيانات الرسمية المصرية التي ينشرها البنك الدولي. أما أفقر40% من السكان في جنوب إفريقيا فقد كانوا يحصلون علي9% من الدخل عام1993, وأصبحوا يحصلون علي ثمانية ونصف في المائة من الدخل عام2009, مقابل أكثر من22% في مصر. وبلغت حصة أدني60% من السكان, نحو19% من الدخل في جنوب إفريقيا عام1993, وانخفضت إلي نحو17% من الدخل عام.2009 أما أغني10% من سكان جنوب إفريقيا فكانوا يحصلون علي سبعة وأربعين وثلاثة أعشار في المائة من الدخل عام1993, وأصبحوا يحصلون علي واحد وخمسين وسبعة أعشار في المائة من الدخل عام2009, مقابل قرابة27% في مصر, بينما حصل أغني20% من السكان علي أكثر من63% من الدخل عام1993, ارتفعت إلي أكثر من68% من الدخل عام2009, مقارنة بنحو أربعين وثلاثة أعشار في المائة من الدخل لأغني20% من السكان في مصر. كما أن معدل البطالة في جنوب إفريقيا يصل إلي نحو ربع قوة العمل, بما يعني حرمان أولئك العاطلين من كسب عيشهم بكرامة. وكما هو واضح فإن مانديلا لم يغير النظام الاقتصادي-الاجتماعي وتسامح كليا مع استمرار سيطرة البيض علي كل شيء تقريبا, وكذلك فعل من خلفوه( مبيكي, وزوما). وكان من الطبيعي أن يعتبره الغرب نموذجا للتسامح, طالما أن نضاله لم يمس النظام الرأسمالي وانفتاح البلد أمام الرأسمالية العالمية. وكان النموذج المقابل لمانديلا, هو روبرت موجابي في زيمبابوي, الكريه بالنسبة للغرب لأنه أمم شركات البيض الكبري ونزع الأرض من المستوطنين البيض ووزرعها علي أبناء الشعب فحاصره الغرب محاولا تجويع بلاده. وتجدر الإشارة إلي أن الغرب وإعلامه, حاول أن يختصر التاريخ النضالي لشعب جنوب إفريقيا في شخص مانديلا, متجاهلا عظمة التاريخ النضالي لهذا الشعب ولرفاق مانديلا في المؤتمر الوطني والحزب الشيوعي, وإن كان ذلك لايمس عظمة نضال وتضحيات مانديلا. ولا يمكن أن ننسي تضامنه الرائع مع قضايانا العربية, ومحاولاته الدءوبة للتوسط لحل النزاعات العرقية والسياسية العربية, وتقديره الهائل لمساندة بلادنا لنضال شعبه, وإجلاله العظيم للزعيم الراحل جمال عبد الناصر ولدوره ودور مصر التاريخي في تحرير إفريقيا, وهو ما يطرح التساؤل حول سبب كراهية الغرب لنموذج جمال عبد الناصر في مصر رغم أنه قاد انقلابا ثوريا أبيضا( بلا دماء) وتحول بدعم شعبي هائل إلي ثورة اجتماعية, وهو يعد أحد القادة المعلمين العظام في تاريخ الاستقلال الوطني للدول التي كانت خاضعة للاستعمار, وهو ضمنيا أحد معلمي وملهمي مانديلا وغيره من قادة التحرر الوطني. والقضية ببساطة, هي أن عبد الناصر بني نموذجه بالأساس علي التحرر الوطني وبناء تنمية مستقلة تتسم بدرجة معتدلة من العدالة الاجتماعية, وفتح باب الحراك لأبناء الطبقات الفقيرة والوسطي للصعود بناء علي علمهم وكفاءتهم وعملهم بلا تمييز, وحاول إيقاف نهب الرأسمالية العالمية لمصر. وتوجه عبد الناصر للغرب في البداية للتعاون والمشاركة في تطوير الاقتصاد المصري, لكنهم ماطلوا ثم رفضوا بعجرفة وبصورة مهينة, إقراض مصر لتمويل بناء السد العالي, وضغطوا علي البنك الدولي ليتخذ القرار نفسه. وإزاء رفض الأمريكيين والبنك إقراض مصر, لم ينكسر ناصر وإنما أمم القناة ومول بناء السد العالي بإيراداتها, وتدثر بشعبه وبكل أحرار أمته والعالم في مواجهة الغزو البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي الإجرامي الدنيء, وكسب الرهان ودحر العدوان, وبني السد الذي أختير كأعظم مشروع بنية أساسية في العالم في القرن العشرين, ووضع قواعد العدالة الاجتماعية وصار أيقونة الدول النامية وكل أحرار العالم, بينما اعتبره الغرب عدوا لدودا. وقام ناصر بتمصير الشركات الأجنبية وبناء الأساس الاقتصادي للاستقلال الوطني الشامل من خلال مشروعات صناعية وزراعية وخدمية كبري, وضاعف القطاع الصناعي خمس مرات وجعل مصر من أكثر الدول النامية تقدما, وساعد حركات التحرر في الوطن العربي وإفريقيا والعالم, وقدم نموذجا للتحرر من أسر التبعية, فكرهه الغرب ودبر ضده المؤامرات واعتدي علي مصر مباشرة أو عبر الكيان الصهيوني, بينما احتفي الغرب بالزعيم الإفريقي العظيم نيلسون مانديلا الذي ركز كفاحه علي إنهاء الفصل العنصري وبناء الديمقراطية السياسية, دون أن يمس النموذج الرأسمالي أو يضع ضوابط لمنع الرأسمالية العالمية من نهب ثروات بلاده, حيث بلغ الناتج القومي نحو305 مليارات دولار, بينما بلغ الناتج المحلي الإجمالي364 مليار دولار عام2010, والفارق بينهما أي59 مليار دولار هو ما يتم نزحه في العام من أموال وموارد البلاد إلي خارجها لصالح الرأسمالية العالمية. لمزيد من مقالات أحمد السيد النجار