كثير من كبار أدباء العالم عندما يموتون تنحسر عنهم دائرة الضوء لفترة, ثم يعودون ليشغلوا الناس, وقد يظل بعضهم في دائرة النسيان, لكن هذا لم يحدث لأديبنا العالمي نجيب محفوظ الذي شغل الناس في حياته ومازال يثير اهتماماتهم بعد موته. فأنا أعرف الكثير من القراء الذين يعودون إلي قراءة أعماله التي قرأوها من قبل, وهم عند إعادة القراءة يكتشفون أشياء جديدة في عالم نجيب محفوظ. ولاشك أن هناك أسبابا كثيرة جعلت من نجيب محفوظ هذا الكاتب المتألق دائما, من بينها, الثراء الشديد في عالم نجيب محفوظ وشخصياته, فقد ذكر النقاد أو تحدثوا كثيرا في فترة من الفترات عن أن محفوظ هو كاتب الطبقة البورجوازية, ولكن ثبت فيما بعد أن هذه المقولة كانت خاطئة وبعيدة كل البعد عن التوصيف الحقيقي لعالم محفوظ الذي اتسع ليشمل كل الفئات وكل أفراد المجتمع, من الطبقات الأرستقراطية, والبورجوازية, والطبقات الفقيرة والمهمشة, ورجال السياسة والمال والاقتصاد, والدراويش والمشعوذين وغيرهم, وهذا كله ينقض المقولة المذكورة عن أنه كاتب البرجوازية, وإلا فقل لي بماذا نصف شخصيات رواية زقاق المدق, علي سبيل المثال فقط مثل عباس الحلو الحلاق المطحون, وزيطة صانع العاهات, وحسنية الفرانة وزوجها, والدكتور بوشي طبيب الأسنان المزيف, وبطلة الرواية وغيرهم. وكل هؤلاء شخصيات من قاع المجتمع يعانون من الفقر والتهميش وأقسي صنوف النفي الاجتماعية, ولا ينسب لطبقة البورجوازية في هذه الرواية العملاقة إلا السيد علوان التاجر. ومن العوامل التي جعلت نجيب محفوظ هذا الكاتب الحاضر دائما أنه الأديب الذي أقام الفن الروائي في بلادنا علي أسس قوية راسخة بتحولاته المختلفة التي كانت العنصر المهم في هذا الجانب, بدءا من المرحلة التاريخية التي توقفت بعد إنجازه لثلاثة أعمال فقط, انتقل بعدها إلي المرحلة المسماة بالواقعية النقدية التي بدأت بالقاهرة الجديدة وانتهت بالثلاثية, ثم المرحلة الميتافيزيقية( رواية أولاد حارتنا), ثم الروايات التي نشرت في الستينيات وركزت علي نقد سلبيات المجتمع بعد قيام ثورة يوليو ولا نريد أن نستمر في تعداد هذه المراحل المتواصلة فكلها معروفة, ولكننا نقول إن نجيب محفوظ ختم حياته الفنية بعملين في غاية الأهمية سواء علي مستوي الشكل, أو علي مستوي المضمون وهما' أصداء السيرة الذاتية و أحلام فترة النقاهة'. كذلك فإن نجيب محفوظ ظل مرتبطا بحركة المجتمع منذ أن بدأ الكتابة في ثلاثينيات القرن حتي وفاته. وكان لديه حاسة نقدية هائلة تجاه ما يجري في الشارع ولا نستطيع أن نقدم أمثلة كثيرة في هذا الشأن في هذه الكلمة القصيرة, ومن ثم نكتفي بمثال واحد. فعندما برزت بقوة في أواخر السبعينيات مشاكل السكن والزواج والأزمات الاقتصادية الاجتماعية كتب نجيب محفوظ رواية الحب فوق هضبة الهرم وبطلاها فتي وفتاة يجمع بينهما عقد زواج لكنهما لا يجدان مكانا يضمهما معا, وبالتالي لم يجدا إلا هضبة الأهرام الفسيحة يمارسان فيها حقهما المشروع. وقد سئل نجيب محفوظ كثيرا كيف يطلع علي مشكلات الشباب ويكتب عنها فكانت إجابته أنه يتابع دائما مايجري في المجتمع ويسأل الناس. ولاشك أنه كان علي صلة قوية بعدد كبير من أصدقائه ومحبيه والعاشقين لفنه وإبداعه. لم يكن نجيب محفوظ يعيش في برج عاجي بل كانت مهمته الأولي هي التعرف علي مايجري في الشارع المصري, والوقوف علي كل مايحيط بالناس من مشكلات وتعقيدات. وتبقي كلمة أخيرة هي أن نجيب محفوظ بعد حصوله علي جائزة نوبل عام8891 وترجمة أعماله إلي كثير من لغات العالم كانت الروايات التي حظيت بإقبال واسع من القراء هي الروايات التي قال عنها بعض النقاد عندنا إنها روايات تقليدية, وأضرب مثلا واحدا هو رواية زقاق المدق, وهذا إن دل فإنما يدل علي أن النقد عندنا في فترة من الفترات خضع تماما لأفكار قادمة من الغرب نقلت بحذافيرها دون أن يتاح لها ما يمكن أن نسميه بالمواءمة بين واقعنا النقدي والثقافي والتراثي والاجتماعي لكن نجيب محفوظ يظل دائما شامخا ومتألقا, سواء أثناء حياته أو بعد موته. لمزيد من مقالات د.حامد ابو احمد