عبثا يسطون علي دفء المكان وجمال تاريخه.. يشوهون الماضي بمعول المستقبل.. متحفزون, يهتفون باسم الحرية وشرعية التظاهر, وهم في الواقع يمطرون الشوارع غضبا ونارا!.. فيبدو اللامعقول ينصب مسرحه في الطرقات والميادين. ربما المطالب مشروعة, لكن الوسيلة مرفوضة تماما. رسومات وسباب يغطي الجدران والتماثيل الأثرية.. الأسوار سرقت منها الأعمدة الحديدية.. الأرصفة انتزعت منها حجارتها... الكل يهتف بحياة الوطن, والكل يذبح الوطن بالتراضي!! ها هي سوريالية الفوضي بكل ألوانها تغزو واحدا من أهم ميادين مصر كلها: ميدان سليمان باشا.. هذا الميدان- الذي شهد نقل تمثال صاحبه الأصلي سليمان باشا في سنة1964 إلي مدخل حديقة المتحف الحربي بالقلع, واستبداله بتمثال طلعت حرب( صاحب الميدان الجديد)- كان حيا أفرنجيا بمعني الكلمة.. يتجلي في مبانيه وعمارته طراز الباروك الفرنسي.. تزخر البلكونات صغيرة الحجم بأشغال الحديد المطروق والكابولي المزخرف.. الدرج والمداخل الرخامية مرآة عز وأبهة.. الزخارف المحيطة بالنوافذ والأبواب تنطق بالفخامة والثراء الفني الأصيل. يشير هنا د.حسام الدين إسماعيل, استاذ مساعد الآثار الإسلامية بجامعة عين شمس, إلي أن الخديو إسماعيل حين خطط قاهرته, الممتدة من قصر العيني في الجنوب حتي ميدان رمسيس شمالا.. ومن شارع بورسعيد شرقا إلي النيل غربا, قرر ربط المدينة القديمة بالحديثة عن طريق شارع محمد علي وشارع كلوت بيك. بينما جاء تخطيط هذا الميدان علي نمط تخطيط باريس في القرن ال19 م حيث أسندت المهمة لنفس المهندس الفرنسي هاوسمان مع مجموعة من المهندسين المصريين الذين درسوا في عاصمة النور آنذاك. علما بأن الميدان اكتسب إسمه نسبة إلي سليمان باشا الفرنساوي مؤسس الجيش المصري الحديث في عصر محمد علي. قبل أن يأتي آخر الزمان حين تصنع العمامة من الدجال رجل دين, ويصنع الشال الفلسطيني من الفاشل مناضلا ثائرا.. كان معظم سكان الميدان وأصحاب المتاجر أجانب من جنسيات مختلفه: فتجد البقال يونانيا, الحلواني سويسريا, الصيدلي إنجليزيا, أصحاب المحلات الكبري يهود وإيطاليون. كانت مصر- بناسها- أجمل منفي للحرية والتسامح.. نسمات الحب لايزال بعضها يغمر الفضاء بين عمارات جروبي, ويعقوبيان, وعمر أفندي, وصيدناوي, ومقهي ريش, ومكتبة مدبولي.. نسمات تنشط الذاكرة عندما تختلط برائحة فنجان القهوة داخل جروبي الذي أسسه السويسري جاكومو جروبي كمشروع ثقافي يرسي ذوقا وتقاليد جديدة علي المجتمع. هنا أقيمت الحفلات الراقصة, واستقدمت الفرق الموسيقية, وعرض في حديقته الخلفية الأفلام السينمائية. كذلك, أدخل جروبي إلي مصر للمرة الأولي أنواعا جديدة من الشيكولاتة والعصائر المركزة والمربي والجبن, وأنواعا جديدة من الحلوي آنذاك, مثل: كريم شانتي, مارون جلاسيه, جيلاتي, ميل فوي, إكلير... كان المقهي إسلوب حياة. وفيما يتعلق بوجود خطة لدي الدولة بهدف تحويل هذا الميدان الأثري إلي محمية عمرانية أو وضعه علي قائمة التراث, يقول د.حسام الدين إسماعيل: لقد قام بالفعل جهاز التنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة بتسجيل معظم هذه المنطقة طبقا للقانون الصادر عام2006 م.. كما قام بالتعاون مع محافظة القاهرة وشركة المقاولون العرب, بتوحيد ألوان العمائر بميدان سليمان باشا قبل سنة2011 كخطوة للحفاظ علي عمائر المنطقة. وقد أعلن عن مشروع الحفاظ علي القاهرة الخديوية الممتدة من ميدان التحرير حتي ميدان رمسيس وميدان عابدين.. لكن في ظل هذه الهوجة والفوضي والتخلف الذي تعيشه مصر منذ ثلاث سنوات, لم يتم أي شئ مطلقا!!.. بل إننا نفقد كل يوم شيئا من المناطق التاريخية سواء بالتخريب أو بالتشويه.. دون أن ندرك ونعي أن تاريخ تطور الشعوب يكتب من خلال تتبع تطور عمارتها وشوارعها.