'سويسرا ترفض الأموال القذرة.. وبادرت بتجميد أموال مبارك وعائلته ورجاله بعد نصف ساعة من الإطاحة به'... هذه الجملة ترددت أكثر من10 مرات خلال لقاءات مع مسئولين في وزارتي الخارجية والعدل بالعاصمة السويسرية برن. إن سر هذه الجملة المتكررة يكمن في أن سويسرا تواجه ضغوطا خارجية واتهامات بعدم التعاون في مجال محاربة غسيل الأموال.. فبلد البنوك- التي تستحوذ علي نحو ثلث الثروات المالية العالمية- تسعي إلي غسيل سمعة نظامها المصرفي الذي يعتبره البعض' جنة الأموال القذرة' التي يلجأ إليها الفاسدون من الحكام ورجال الأعمال لحماية أموالهم من المصادرة أو الملاحقة تحت غطاء سرية الحسابات المصرفية. وفي هذا السياق, جاء الربيع العربي ليمنح بلد جبال الألب الهادئة فرصة لإثبات أنها ترفع شعار' لا للأموال السوداء' علي أبوابها, فسارعت سويسرا إلي تجميد أموال الرئيس التونسي المخلوع بن علي وعائلته وكذلك قامت بتجميد أموال عائلة مبارك ورجاله عبر قرار سياسي أصدره المجلس الاتحادي( السلطة التنفيذية). وبالفعل قامت سويسرا بتجميد نحو780 مليون فرنك( نحو6 مليارات جنيه) في حسابات32 من عائلة مبارك ورجاله أبرزهم جمال وعلاء مبارك وحسين سالم وأحمد عز وأحمد نظيف.وكما يقول'فالنتين زويلجر', مدير إدارة القانون الدولي بوزارة الخارجية السويسرية, فإن القرار جاء بمثابة رسالة تضامن مع الشعب المصري وخشية الدخول في تعقيدات قضية الديكتاتور الفلبيني فريناند ماركوس الذي قام بتحويل أمواله من مصارف سويسرا بعد خلعه من السلطة. ولكن هل وصلت الرسالة؟ الإجابة التي تقرأها ما بين السطور في تصريحات المسئولين السويسريين وفي عيونهم هي' للأسف لا'.. فبلد الساعات والشيكولاتة والبنوك واجهت اتهامات من الرأي العام المصري برفض إعادة الأموال المنهوبة وخاصة بعد أن أوقف القضاء السويسري التعاون مع السلطات المصرية بشأن استعادة الأموال في ديسمبر2012 عقب قرار الرئيس المعزول محمد مرسي إقالة النائب العام. وبدت سويسرا كأنها الدولة الوحيدة التي توجد بها أموال المصريين المسروقة لتواجه العاصفة وحدها. فيما كانت بريطانيا أكثر حرصا بإعلانها تجميد134 مليون دولار فقط من أموال عائلة مبارك ورجاله. ويبدو أن البعض في سويسرا يندم علي إعلان قيمة الأموال المصادرة. فالسويسرون يدركون أن تجميد780 مليون فرنك لا يساوي شيئا أمام سمعة قطاع مصرفي يحتوي علي4300 مليار دولار من الودائع منها200 مليار دولار من البلدان العربية. ولكن إعلان البيانات السويسرية توافق مع استمرار صدي' الرقم الصدمة' الذي سربته صحيفة' الجارديان' في5 فبراير أن مبارك ورجاله يمتلكون70 مليار دولار في البنوك خارج مصر. هكذا ارتبط خبر' الجارديان' بتجميد سويسرا لأرصدة رجال مبارك في ذهن المصريين, فأصبح سؤال الجميع كيف أن جميع الأزمات سيحلها' عفريت الفانوس السحري' القابع في بلاد الثلج. هكذا انقلب السحر علي الساحر!. فالخارجية السويسرية التي دفعت حكومتها للإسراع بتجميد الأموال لرجال الأنظمة القمعية الفاسدين في مصر وتونس بقرار سياسي لكسب معركة السمعة المصرفية دوليا في ظل معارك مع الولاياتالمتحدة وألمانيا حول سرية الحسابات, وجدت نفسها تواجه انتقادات عنيفة في الشارع وأمام الرأي العام المصري بسبب عدم إعادة الأموال. وهنا دخلت سويسرا' معركة سمعة' جديدة في مصر والعالم العربي..' مصادرة الأموال لا يكفي الأهم هو استعادة الأموال', هكذا كان لسان حال المصريين وحكومتهم. وفي المقابل, فإن النظام السويسري يمنع إعادة الأموال لمجرد الاشتباه. وعكست تصريحاتسوزان كيسلر, نائب مدير المكتب الفيدرالي للعدل بسويسرا, للوفد الصحفي المصري إدراك المعضلة مع الرأي العام المصري. فالمسئولة السويسرية كررت أكثر من مرة شرح كيف أن سويسرا تعاونت مع السلطات المصرية وقامت بإرسال خبراء لتدريب أعضاء في النيابة العامة وهيئة الرقابة الإدارية بمصر بشأن كتابة صيغ الطلبات لاسترداد الأموال وطريقة صياغة الأحكام القضائية ضد المدانين بالفساد. وأسهبت في الحديث عن أن تجميد الأموال جاء بقرار سياسي استنادا إلي الدستور لمنح السلطة القضائية في مصر الوقت للتحقيق وإتخاذ الإجراءات القانونية وإثبات صلة الأموال المجمدة في البنوك السويسرية بقضايا فساد محددة في مصر. ودافعت كيسلر عن عدم تقديم كافة المعلومات التفصيلية بشأن حسابات رجال مبارك في بنوك سويسرا والاكتفاء بالأسماء فقط إلي عدم سماح القانون السويسري بتوفير هذه المعلومات دون وجود أحكام قضائية محددة وضرورة توفر بيانات تفصيلية علي الأقل بشأن هذا الحساب وليس مجرد ذكر اسم شخص مشتبه به. وحاولت بالتوازي برمي الكرة في' الملعب المصري' بالتشديد علي أن التعاون بين سويسرا ومصر توقف بسبب عدم الاستقرار السياسي وتأثيراته علي النظام القضائي وهو ما ظهر جليا في إقالة مرسي للنائب العام, وأنمصر لم تقدم حتي الآن مؤشرات واضحة علي وجود أموال غير شرعية مملوكة لمبارك وأفراد من نظامه ولا بشأن الأموال والأصول المتحفظ عليها في سويسرا. فسويسرا واجهت في عملية غسيل السمعة المصرفي عبر مصر وتونس عقبة نظامها السياسي والمصرفي. فلا يمكن أن تعرف بالتحديد ماذا لدي مبارك في هذه البنوك أو نجليه أو أحمد عز أو أي من حاشية النظام القديم, مجرد رقم إجمالي لا يساعد جهات التحقيق في مصر علي تحديد مدي التضخم في ثروات هؤلاء الأشخاص وتوجيه الاتهامات إليهم بالأدلة السويسرية بل علي العكس علي جهات التحقيق المصرية أن تجيء بالأدلة أولا علي الفساد وحجم الأموال التي انتقلت عبر هذا الفساد إلي سويسرا لتستعيد الأموال, وهي مهمة ظهر خلال السنوات الثلاث الماضية أنها' شبه مستحيلة'. ولعل المسكوت عنه في حوارات المسئولين السويسريين أن سرية الحسابات المصرفية خط أحمر لا يمكن تجاوزه إلا مع الأقوياء. فمبدأ سرية الحسابات يحظي بدعم الأحزاب اليمينية الرئيسية في الحكومة الفيدرالية, بالإضافة إلي الحزب الديمقراطي المسيحي( وسط يمين) والحزب الليبرالي الراديكالي( يمين), بل أن حزب الشعب( يمين شعبوي) طرح قبل بضع سنوات فكرة إضافة السرية المصرفية إلي الدستور الفيدرالي. ولم يعد الحزب الاشتراكي يتجرأ علي معارضة السرية المصرفية منذ أن منيت مبادرته بهزيمة ساحقة, إثر رفضها من قبل73% من المواطنين, في استفتاء.1984 في المقابل, اضطرت سويسرا عام2009 لتزويد الولاياتالمتحدة بالبيانات الخاصة بآلاف العملاء في مصرف' يو بي إس' بعد تهديد واشنطن بفرض عقوبات صارمة علي البنوك السويسرية, متهمة إياها بمساعدة عشرات الآلاف من الأمريكيين علي التهرب من الضرائب. ولكن مصر ليست أمريكا بالطبع!.