سعر الجنيه الاسترليني بالبنوك أمام الجنيه اليوم الجمعة 3-5-2024    الأسهم الأوروبية ترتفع بدعم من الأداء القوي للقطاع المصرفي    شوبير يوجه رسائل للنادي الأهلي قبل مباراة الترجي التونسي    الأرصاد: رياح مثيرة للرمال على هذه المناطق واضطراب الملاحة في البحر المتوسط    حبس 4 أشخاص بتهمة النصب والاستيلاء على أموال مواطنين بالقليوبية    اسلام كمال: الصحافة الورقية لها مصداقية أكثر من السوشيال ميديا    حكم لبس النقاب للمرأة المحرمة.. دار الإفتاء تجيب    تقارير أمريكية تتهم دولة عربية بدعم انتفاضة الجامعات، وسفارتها في واشنطن تنفي    حزب الله يستهدف زبدين ورويسات العلم وشتولا بالأسلحة الصاروخية    مستوطنون يهاجمون بلدة جنوب نابلس والقوات الإسرائيلية تشن حملة مداهمات واعتقالات    اعتصام عشرات الطلاب أمام أكبر جامعة في المكسيك ضد العدوان الإسرائيلي على غزة    حرب غزة.. صحيفة أمريكية: السنوار انتصر حتى لو لم يخرج منها حيا    وزير الدفاع الأمريكي: القوات الروسية لا تستطيع الوصول لقواتنا في النيجر    البابا تواضروس يترأس صلوات «الجمعة العظيمة» من الكاتدرائية    مواعيد مباريات الجمعة 3 مايو 2024 – مباراتان في الدوري.. بداية الجولة بإنجلترا ومحترفان مصريان    خالد الغندور عن أزمة حسام حسن مع صلاح: مفيش لعيب فوق النقد    الكومي: مذكرة لجنة الانضباط تحسم أزمة الشحات والشيبي    تشكيل الهلال المتوقع أمام التعاون| ميتروفيتش يقود الهجوم    تشاهدون اليوم.. زد يستضيف المقاولون العرب وخيتافي يواجه أتلتيك بيلباو    إشادة حزبية وبرلمانية بتأسيس اتحاد القبائل العربية.. سياسيون : خطوة لتوحيدهم خلف الرئيس.. وسيساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في سيناء    5 أهداف لصندوق رعاية المسنين وفقا للقانون، تعرف عليها    «التعليم»: امتحانات الثانوية العامة ستكون واضحة.. وتكشف مستويات الطلبة    خريطة التحويلات المرورية بعد غلق شارع يوسف عباس بمدينة نصر    ضبط 300 كجم دقيق مجهولة المصدر في جنوب الأقصر    ننشر أسعار الدواجن اليوم الجمعة 3 مايو 2024    لأول مرة.. فريدة سيف النصر تغني على الهواء    معرض أبو ظبي يناقش "إسهام الأصوات النسائية المصرية في الرواية العربية"    «شقو» يتراجع للمركز الثاني في قائمة الإيرادات.. بطولة عمرو يوسف    استقرار أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة.. عز ب 24155 جنيهًا    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدد المرات.. اعرف التصرف الشرعي    حكم وصف الدواء للناس من غير الأطباء.. دار الإفتاء تحذر    الناس لا تجتمع على أحد.. أول تعليق من حسام موافي بعد واقعة تقبيل يد محمد أبو العينين    موضوع خطبة الجمعة اليوم وأسماء المساجد المقرر افتتاحها.. اعرف التفاصيل    «تحويشة عمري».. زوج عروس كفر الشيخ ضحية انقلاب سيارة الزفاف في ترعة ينعيها بكلمات مؤثرة (صورة)    «سباق الحمير.. عادة سنوية لشباب قرية بالفيوم احتفالا ب«مولد دندوت    وزارة التضامن وصندوق مكافحة الإدمان يكرمان مسلسلات بابا جه وكامل العدد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة3-5-2024    مواعيد صرف معاش تكافل وكرامة بالزيادة الجديدة لشهر مايو 2024    دراسة أمريكية: بعض المواد الكيميائية يمكن أن تؤدي لزيادة انتشار البدانة    دراسة: الأرز والدقيق يحتويان مستويات عالية من السموم الضارة إذا ساء تخزينهما    أهداف برشلونة في الميركاتو الصيفي    رسالة جديدة من هاني الناظر إلى ابنه في المنام.. ما هي؟    "نلون البيض ونسمع الدنيا ربيع".. أبرز مظاهر احتفال شم النسيم 2024 في مصر    حكم البيع والهبة في مرض الموت؟.. الإفتاء تُجيب    الخضري: البنك الأهلي لم يتعرض للظلم أمام الزمالك.. وإمام عاشور صنع الفارق مع الأهلي    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    بعد انفراد "فيتو"، التراجع عن قرار وقف صرف السكر الحر على البطاقات التموينية، والتموين تكشف السبب    مصطفى كامل ينشر صورا لعقد قران ابنته فرح: اللهم أنعم عليهما بالذرية الصالحة    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكايات من زمن فات‏:3‏
رباعية خيري
نشر في الأهرام اليومي يوم 13 - 01 - 2012


. 3 جار البدوي
منذ أن أصبحنا من جيران السيد البدوي.. يزورنا خيري أفندي في موعد المولد كل عام..
فما أن يهل شهر جماد حتي نتوقع مجيئه من القاهرة إلي طنطا وزيارته لنا مرة أو مرتين قبل انتهاء الاحتفالات... ثم يختفي بعد الليلة الكبيرة فلا نراه إلا في العام التالي...
وعدت من عملي بالامس فوجدته في انتظاري في جمع من الجيران فتناول معي الغداء والقهوة... وداعب الصغار... وانصرف ليزور أهل الحظوة من المباركين... ولما سألني الجيران بعد رحيله من الأعرج الذي يلهج بالأشعار ويسأل عني كل من يلقاه؟
أجبتهم أنه حماي جد الأولاد... ورغم أنه لم يعد لزيارتهم اليوم إلا أنني وقعت في المحظور بسبب حديثي عنه مع الجيران فقد رفعت زوجتي أصبع الوعيد.... وارعدت تستجوبني... كيف سولت لي نفسي أن أسخر من حسبها ونسبها... فأزعم أن المتسول الذي يدور في الموالد هو والدها!!
وأدركت من تقصد... وسألت نفسي... لماذا لم أخبر الجيران.. بحقيقة الصراف العجوز وجعلت منه والدها!!
كان يمكن أن أقول لهم... إنه صراف خرج علي المعاش... فما أن انعتق من الوظيفة حتي راح ينطلق تدفعه الذكريات وتجذبه الأشواق فيميل حيث تميل غير مبال بما يتكبد من مشقة في سبيل التندر بذكري.. أو الطرب لبيت من الشعر مع زميل من زملائه القدامي...
ورحت أهديء زوجتي فقلت:
كي يفهم الجيران الذين سألوني عنه...
كيف يفهم بائع العيش أو الحلاق... أنه يزورني ولم يعد بيننا قبض ولا صرف..
ثم صاحبة البيت!!
ماذا كان يمكن أن أقول لها عنه؟
وتذكرت كيف كانت صاحبة البيت متربعة وسط الجيران بالأمس وقد أجلست خيري علي الأريكة إلي جوارها ليتمالك أنفاسه ويشرب القهوة وهو ينتظر عودتي من العمل... بفناء الدار... ثم قلت لزوجتي: كيف كنت أشرح لصاحبة البيت من يكون خيري؟؟ وما معني زيارته دون أن يكون قريبا أو نسيبا لنا.. ؟؟
هل أحكي لها كيف يشد الرحال ويبحث عن عنواني كي يصلح بيتا من الشعر اكتشف بعد رحيله أنه أملاه لي مكسورا... وخشي أن أتندر به في مجلس من مجالس الخلان فأنطقه مشوها فتفسد المفاكهة وينقلب الطرب نشازا...!
وأخبرتني زوجتي.. كيف اتخذت صاحبة البيت من شخصية خيري ذريعة للغمز والسخرية منها والحط من قدرها... فمضيت في تهدئتها قائلا:
لايسأل الناس عادة لماذا يسافر الأقرباء بعضهم لبعض ولا لماذا يجوب أحدهم الآفاق بحثا عن عنوان صهر أو نسيب أما الغاوون من أمثال خيري هذا.. فماذا يقول المرء عنهم دون أن يثير ريبة الناس وتوجسهم... وصاحت زوجتي:
داهية يعتبرك ابن قافية ملحوس مثله..؟؟
وصارحتها: حقا... وقرفي نفسه هذا الرأي في آخر عهدنا بالزمالة بقلم حسابات القاهرة.
فقرر قبل خروجه إلي المعاش بسنوات أنني لابد أن أكون سرا ابن قافية لكني أخفي ذلك بسبب عملي في وظيفة لا يجتمع فيها إلا صنف الغافلين... والعياذ بالله!! حقيقة لم يتصوراني أرتزق بالعمل في حسابات القاهرة... إنما تصور أن الله يعاقبني كما عاقبه...
لابد أنه جلب علي ابنه السخرية حتي أغاظه وأفسد عليه حياته ولو كان الولد قد أطاعه وتبعه في غوايته لأصبح معرة الخلق مثله.
كلما كنت انصحه ألا يفرط في تدليل ابنه... كنت أساله هل اشتريت له الدراجة هدية النجاح... فيجيبني دراجة... أن أبا خليل يركب الفسبا الآن فلما أساله صدفة.. كيف حال الفسبا... حتي يجبيني وهل يصح أن يركب أبو خليل ذات العجلتين وهو الآن جامعي... إنه يركب الأوبل... الآن..
أتظنه يعطي الولد فلوس المعاش أيضا بعد تخرجه وتوظفه...
كان كل أمله ألا يضرب الولد بالتعليم عرض الحائط فيصبح صرافا. بالخبرة مثله.. وكما قال لي: قلت في نفسي شوفلك بقي شغلانة ياخيري لترزق منها.. وأعطه فلوس المعاش حتي يتخرج من الجامعة!!!
وهل مازال الولد يأخذ فلوس المعاش بعد أن اشتغل؟؟
طبعا... وإلا كيف يعيش بالحي الأفرنجي بالاسكندرية... فيسكن البنسيونات ويركب الأوبل..
ألا يخجل أن يترك أباه علي هذا الحال وتقول لي يركب العربات؟؟
وماذا تفعلين مع قراجوز إذا ما مناقشته في أمر أو آخر راح يستشهد لك بصوته الأخنف بقول هذا وذاك من المفقودين والمزبلجين من الشعراء...
عندما زارنا أول مرة منذ ثلاثة أعوام.. وقلت لي إنه الصراف الذي كان يصرف مرتباتنا لابد أنه يحمل العلاوات المتأخرة...
فما أن عرفت أنه في المعاش حتي أستخسرت فيه قدح القهوة.. فما أن أخبرتني بعد رحيله أنه حضر ليصحح بيتا من الشعر كان قد أملاه لك منذ عام... حتي طار صوابي... وقررت أن أغري به أوباش الحارة ليمثلوا به... وراحت زوجتي تسخر.
خاف بسلامته أن تذكر البيت مكسورا في مجلس من مجالس الأنس... أين هي المجالس التي يتخيلها الملحوس في هذا الزمن...!
وتذكرت الأبيات التي قالها بعد أن أغلظ له ابنه الوحيد. ثم ذكرت زوجتي بشعورها بالإشفاق نحو العجوز المستوحش وكيف رقت له خلال زيارته السابقة... حتي تمنت لو يتخذنا أبناء له بدل ولده العاق... مادام الناس كلهم لآدم وآدم من تراب...
ولما اكتشفت الغمز في كلامي فقد تداركت قائلة:
ولكن هل يعني هذا أن تجعل اللئيمة صاحبة البيت تظن أن هذا المجذوب أبي لتربط بعد ذلك ساقها وتتوكأ علي مقشتها وتقلده وهو يصيح فيمن يلقاه بين سخرية الجيران وهزئهم... ولكن خيري أصبح يهيب بكل من يصادفه في السنوات الأخيرة.. سائلا:
من يصرف السوء؟؟؟!!
ثم لا يليث أن يجيب علي سؤاله بنفسه...
لا يصرف السوء إلا الله!!
ولا يجد الناس بأسا في سؤاله ولا جوابه لولا حركاته الهستيرية التي لا تخطئها العين... والتي يمكن أن تفاجيء البعض وأن تجعل الآخرين يتخذونه هزوا... وقلت لها:
لو عرفت ماذا قال عن صاحبة البيت
صاحبة بيتنا؟
لا صاحبة البيت الذي سكنه أخيرا... بالقاهرة... فقد أجر بيته بمبلغ يقتات منه بعد أن استولي الولد علي المعاش.... وسكن حجرة بالسطح...
آه.. حاسبها الله.... هي السبب في كسر رجله..
قال لي بالأمس... أقول لها ياحاجة أصول التنظيم أن يكون للسلالم حواجز تمنع السقوط ومصباح ينقذ العباد من الظلمات... لكن تقول لمن...!
لكني كلما سمعته يقول الحاجة ثار والست الحاجة قلت له إنها لا بد من ملهمات الشعر... وأخوات القريض حتي تأويك في ديارها... وتظلك بكرمها...
فنسي خيري نفسه... وهتف بهذه الأبيات: تحاكي نعيما زال في قبح وجهها وصفحتها لما بدت سطوة الدهر... فإن حدثت كانت جميع المصائب موفرة تأتي بقاصمة الظهر... حديث كخلع الضرس أو نتف شارب وصوت كحطم الزنف عيل به صبري!!!
وضحكت زوجتي من أشعار خيري
ولعنت اللئيمة التي أرادت أن تحط من قدر الرجل في نظرها ونظر الجيران. وطلبت مني مزيدا من أشعاره ومنجزاته.
فقضينا الليلة نتندر ونستعيد ذكرياتنا عن البلبل العجوز..( خيري) واكتشفت( زوجتي) فجأة أننا نصنع معا مجلسا من مجالس الأنس والمفاكهة.. فندمت علي الليالي التي يقضيها المرء في ذكر من يقصف العمر من أولاد الحرام.. ويفنيه من الغم والكمد.
4 غضبة خيري
بالأمس حضر خيري أفندي.. وظننت حين جرني طفلاي الصغيران إليه وهو علي رأس الدرج أنه مازال في معطفه الاسود الجربان وذلك الطربوش المزيت والحذاء الذي ركب به كاوتش أو تومبيلات. ولدهشتي لم يكن يرتدي زيه القديم الذي عرف به أيام كان صراف التنظيم بالقاهرة.
ودهشت أن حضر في هدوء.. ولو علمت صاحبة منزلنا أنه أتي إلي طنطا لخرجت لاستقباله في المحطة في وفد من نساء الحارة.. ولكنها لم تعلم بحضوره فقد عبر بها وقد ارتدي ملابس فاتحة اللون من التيل الثقيل فصلت علي الطراز الشرقي الفضفاض مثل التي كان يرتديها أخونا في الله الذي صحبه معه في زيارته السابقة.. وكان مازال يتوكأ علي عصا.. نفس العصا الخيزران وقد انسجمت الآن مع ثيابه ومظهره الجديد..
وكان يمكن أن يدلف الرجل إلي حجرة الجلوس دون أن يلتقي بطفلي.. ولكننا لم نعثر علي مفتاح بابها الجانبي فجره الأطفال الي الصالة وقامت نفس الضجة التي أثارها الأطفال حوله في زيارته السابقة.. ورغم أنه غير ثيابه ولم يعد يرتدي الطربوش الذي أثار العفريتين الصغيرين في المرة السابقة.. إلا أن الصغيرين عرفاه لسبب أو لآخر.. فما يكاد يجلس علي الاريكة في صدر المكان حتي اعتلي كل منهما كتفا من كتفيه..
وكان الشقيقان قد قطعا زر طربوشه في زيارته السابقة.. واحتالت زوجتي علي إصلاحه بشق الانفس.. وحين رأي غضبي وزجري إياهما أشار الي الطاقية البيضاء التي يرتديها وهو يطمئنني بأنه ليس هناك ما يخشي منه الآن.. ورحت وزوجتي نخلصه فقبلهما قبلات مسموعة وهو يتمتم بأدعية وهتافات غريبة علي أذني.. فقلت له.. لكأنك لم تذق الأمرين من الذرية فراح يتمتم كأنه يردد وردا والله ما أحبهما إلا لحب الله لهما..
وتطلعت إلي زوجتي مندهشة متسائلة مما قاله.. ولكني هتفت به إن كان سيأكل أو يشرب شيئا.. فطلب القهوة.
ولم أتمالك وقد ذهب الشقيان من أن أساله ضاحكا.. ماذا فعلت بنفسك ولكني قلت.. ماذا فعلت بالمعطف والطربوش وباقي.. وباقي..؟؟ فراح يعرض علي ثيابه الجديدة فرحا كطفل غرير وهو يردد.. تقصد عدة قلم الحسابات القديم.. ولاطفته.. أيمكن إن تفعل هذا أن أحد لن يعرفك الآن..
وأكمل: تاب الله علينا وألحقنا بقلم النفحات.. قلت.. لا أصدق عقلي.. أيمكن بعد كل هذه السنين..
وكنت أتذكر الحقيبة الجلدية.. حقيبة الصرف.. والسلسلة الطويلة ذات المفاتيح المختلفة.. والتي لا يجهل صوت صليلها موظف ولا عامل من التنظيم طوال نصف القرن الماضي.. وأكمل,, تركنا المعطف لأخ لنا يقوم بخدمة سيدك العريان.. أما الحذاء فأعطيته لمجاهد من فرسان البدوي.. ولم يدوخني إلا الطربوش قبح الله هؤلاء الترك واختراعهم الجهنمي.. ولما عادت زوجتي بالقهوة نظرت إليها نظرة ذات مغزي.. أن تأخذ بالها من حديثه.. ثم سألته.. ولكنك لم تشرح لي كيف قر قرارك علي هذه الفعلة.. علي أن تلقي بثياب الصراف إلي الأبد.. فتطلع إلي زوجتي باسما وقد أمال وجهه قليلا وهي تضع أمامه صينية القهوة ثم أخذ يردد آيات لم أسمعها.. وأخيرا هتف.. أرايت ياستنا إلي زوجك السعيد.. يهزأ مني لأن الله أضاء بيته وزينه.. ولم تفهم زوجتي ما يقول.. ولما رأيت التساؤل في عينيها قلت لها يقول أن الله أضاء بيتي.. فأساليه هل نوره حين حضر.. أما ماذا؟؟
عندئذ هب خيري في نصف قومة من جلسته علي الأريكة وأشار إلي السماء بكفيه قائلا.. اللهم اغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. ثم أشار يخاطب زوجتي.. يعلم الله أنك تنيرين الفردوس يابنيتي وليس فقط بيت هذا العبد الفقير.. وكانت إحدي يديه تشير الي في رثاء.. والأخري مازالت مرفوعة وكأنها علقت بالسماء.. ونور الله مخ زوجتي.. فما أن أدركت بعد جهد ما يقصد الشيخ حتي انفجرت تضحك وتصفق بكفيها وقد تورد وجهها وغمرتها السعادة.. عندئذ قلت له مترنما.. الله.. الله.. حرض الولية حرض فصاح بي: أثبت أيها الغافل.. إنما أصلها ثابت وفرعها في السماء!!
وصمت مليا.. ثم تمتم بكلمات حول الثبات والثابتين بينما رحت أضحك من تشبيهاته.. ثم زفر زفرة حري وردد كأنه يكلم نفسه,, ظننت أنه قد انصرف قلبي عن دار الفناء ولكن الله عاقبني جزاء عجلتي.. قال لي.. بل الزم الأعتاب ياخيري فإنك مازلت خارج الهيئة!!
وسألت زوجتي خارج أيه..؟؟ فأجابها مذهولا.. خارج الهيئة.. وياليتني خارج الهيئة فقط.. ثم عاد يزفر.. وعلقت قائلا: ياللداهية.. وهل هناك ما دون ذلك.. فلم يحفل بتعليقي.. إنما مضي في تحسره يقول: ياليتني كنت خارج الهيئة.. ولكن ظهر أنني ألعن من ذلك ودهشت زوجتي وأخذت أنا أراقب الرجل وأسبق الحوادث علني أكتشف ما يخفني في جعبته.. ولكنني لم أكتشف شيئا وأنا أراه وقد خلع ثيابه القديمة وغير هيئته داخل ثياب المتصوفة.. وأصبح شخصا آخر غير الصراف الذي كنا نعرفه في الماضي.. وأكمل كلامه.. ظهر أنني من الغافلين والعياذ بالله.
والتبس الأمر علي زوجتي فأشارت إلي إشارة خفيفة.. تعني أن كنت أفهم شيئا من كلامه.. ولكنه تولي أمر الترجمة فأخذ يشرح لها أن لكل هيئة درجاتها وطبقاتها يابنيتي.. فهناك في هيئتنا الواصلون.. أي من هم في درجة مدير عام فما فوق.. ثم رؤساء الاقلام.. فهناك رئيس قلم النفحات ورئيس قلم التراويح ورئيس قلم النوافل إلي أخره.. ثم هناك التابعون.. وتابع التابعين.. وهم درجات أيضا وأثارني كلامه فإذا بي أسأله وتابع التابعين.. لهم درجات أيضا.. فأجابني.. ألا يوجد في الكادر الابتدائي درجة تاسعة.. وثامنة.. فسخرت منه.. الله.. وجدت نفسك في التاسعة إذن.. لو كنت وجدت نفسي حتي في العاشرة ما جلست بينكم أعض بنان الندم هكذا. ولكن وجدت نفسي خارج الهيئة..
خارج الهيئة.. أي والله.. خارج الهيئة.. ظهرات.. والعياذ بالله.. مثل الأنفار الذين كنا نضحك عليهم أيام التنظيم.. وصمت مليا.. ثم تنبه إلي قدح القهوة الذي قدمته إليه زوجتي.. فتناوله منها وهو يهز رأسه ويردد: ثم انتبهت وآمالي تخيل لي.. نعم..
انتبهت وآمالي تخيل لي..
ولما لم أميز باقي الشعر.. سألته عن أخيه في الله.. فهز رأسه آسفا فعلقت قائلا.. فعل معك كما فعل الخضر مع موسي..! وصمت مليا ثم أردف.. ليته حتي فعل معي كما فعل الخضر مع موسي ولكنه هرب كمن يهرب من إبليس والعياذ بالله...
وما كنت أتوقع في الحقيقة أن يلازم خيري ذلك المذهول الضخم الذي أحضره معه في زيارته السابقة أكثر من يوم أو يومين.. ولكن ظهر لي من كلامه وأسفه أن كليهما لازم الآخر في السبيل الذي سلكاه مع الدراويش أسابيع وشهورا وليس فقط حتي يصلا إلي هذا أو ذاك من الأضرحة والموالد.
وتذكرت قوله عنه في المرة السابقة.. إنه علي هذا الحال منذ قابلته في القطار بالأمس.. ولقد صاحبته فعجبت لحاله كأنني أعرفه منذ الأزل.. ومع ذلك لا أعرف حتي اسمه ولا أعلم عنه شيئا سوي أنه سيقضي الليلة في السيد البدوي.. ثم ينطلق مع الفجر إلي الدسوقي ولست أدري ماذا يجذبني إليه ويجعل سبيله سبيلي.
وطال صمته.. وكدت أسأله عن ابنه إبراهيم الذي يحب أن يدعوه( أبوخليل) ولكني خفت أن أثير أشجانه أكثر مما هي ثائرة,, فصمت فقال.. كنا نتخذ مكاننا في مؤخرة مركب الوداع حين هجمت عليه صبية في ريعان الصبا لم تر مثل حسنها عيناي فوقعت عليه بكل جسدها وهي تبكي وتولول كأنها فقدت كل أهلها.. وحاولت أن تتعلق بعنقه الغليظة.. وتوقعت أن يتوقف جسده الضخم عن السير.. وأن تعوق حركته.. ولكن سبحان الله.. تقدم كالفيل وكأنه لا يراها حتي سقطت الفتاة بين السائرين والمهللين والمكبرين.. وحاولت إنقاذ الفتاة التي أخذت تصيح.. أحب علي أيدك يا بابا.. أحب علي رجلك يا بابا.. ولكني للأسف وقعت معها.. كنت طبعا مازلت ألبس ذلك المعطف اللعين وسروال الصراف أياه..!! وبينما نحن نصطرع.. لا نعرف رأسنا من أرجلنا أنا والفتاة وكاد يدوسنا الموكب الهائل.. إذا امتدت إلي الفتاة أيد قوية راحت تنقذها.. تخلصها من ذلك الحشر..
وجاهدت علي يدي وركبتي حتي أري ما يحدث للفتاة.. فوجدت رجلا ضخما هائلا في مثل ضخامة أخي في الله ومثل ملامحه لولا أنه مازال شابا.. رأيته يرفع الفتاة ويلحق بأخي في الله فيقبل كتفه ورأسه ويهتف.. سامحني.. سامحني.. أحب علي أيدك يا ابا..
وأدهشني أنه كان يبكي كالصبية ويصيح وقد تحشرج صوته كأنه يعاني من سكرات الموت.. ولما لم يلتفت صاحبي إلي كل هذا.. بل ابتعد في الموكب مع المهللين والمكبرين القيت رجلا ضخما أيضا ولكنه في ثياب أفرنجية ظهر وسط الزحام وقبض علي الشاب والفتاة.. فرفع الفتاة بقوة وأصدر أمرا فكف الشاب عن الصياح.. ولكنه راح يضرب رأسه بكلتا يديه.. ويصيح بكلام غير مفهوم.. ولفضولي خرجت عن الصف وتركت التراتيل والتهاليل وأخذت أرقب ما يجري عند رصيف الشارع الذي كنا نعبر عنه.. فرأيت الرجلين يتقدمان نحو سيارة خضراء كبيرة يطل منها بعض النساء فوضع الرجل ذات الثياب الافرنجية الصبية في داخل السيارة.. ثم دفع بالشاب إلي جواره عند عجلة القيادة حدث كل ذلك بسرعة.. ولم ينتظر صاحب السيارة أن ينصرف الموكب أو يخف الزحام.. بل راح يتقدم ويتأخر بالسيارة كمن به مس من الشيطان..
وخفت أن أفقد أخي في الله فطرت رغم الزحام الشديد وجاهدت حتي وصلت إليه.. ولكن ما حدث لم يبارح مخيلتي خاصة الفتاة التي لم ترعيني مثلها قط..
لازم وجه الفتاة رأسي المظلم كما يلازم البدر ليلة التمام.. وأغواني الشيطان مرارا ونحن ننام في رحاب السيدة خلف المقام.. أغواني الشيطان أن أسأل أخي في الله سؤالا أو اثنين.. أبل بهما صداي وأشفي غليلي.. ولكن أني السبيل إلي سؤاله وقد طلق الدنيا ثلاثا وكأن الله ضرب علي سمعه وبصره فلا يري ولا يسمع شيئا من أمورها الفانية..
وانطلقنا بعد ذلك إلي الدسوقي.. وكنا نغفو في الأضرحة.. أو في رحاب المساجد.. ولكن منذ أن رأيت الفتاة وما حدث لها خلال موكب الوداع رحت كلما غفوت سمعت صياحها.. ورأيتها في المنام تتعذب شتي أنواع العذاب وقد انقلب الرجلان الضخمان كأنهما من زبانية الجحيم.. أحدهما في ثياب افرنجية والآخر في ثياب بلدية أما السيارة فكنت أراها مرة كاللولب.. وأخري كالطاحونة.. وثالثة كالهراسة مما يستعمل في الجحيم والعياذ بالله.. وراح هاتف يوحي إلي.. لابد أنها ابنته وإلا ما قالت أبي.. ثم يهتف بي: كيف تنام يا خيري وذلك الملاك يعذب داخل اللولب أو الهراسة..
وكان علي أن أقوم باوراد وأذكار كي أتخلص من رجس الدنيا..
ولكن غلبت صورة الفتاة الأذكار والأوراد..
وهمست زوجتي: يا حرام.. ثم نهرت الصغيرين..
وأردف خيري.. رحت أقوم الليل وأمشي بالنهار مع ذلك الرجل وصياح الفتاة هو أذكاري وأورادي حتي كدت أجن.. ولو كان فقط قال لي كلمة.. لم يقل لي كلمة واحدة حتي بلغنا أبو العباس بالإسكندرية..
وزادت بلواي وفاضت عند أبي العباس حتي نسيت نفسي وأصبحت من الذاهلين.. وصورت لي أوهامي أن سبيلي إلي الله ربما يكون في إنقاذ تلك الفتاة التي ظهرت في صورة ملاك يتعذب وقلت لنفسي: من أدراك يا خيري.. ولم تكن إلا صرافا بدار الفناء من أدراك بما في هذا العالم من الخفايا والامتحانات؟؟
وتركت ربع المنجيات ورحت أستغفر الله وأنا لا أدري أنني أبحث عن حتفي بظلفي.. وصورت لي غفلتي ذات ليلة.. أنه لا سبيل إلي انقاذ ذلك الملاك وبلوغ الخطوة عند الله إلا بمصاهرة ذلك الرجل.. أخي في الله.. أي والله؟؟.
وأفلت لساني:
مصاهرة.. تقصد تتزوجها!
ولا حقني:
في التأني السلامة يا بني.. قلت لك إننا كنا لدي سيدك أبي العباس.. وهكذا يعني أننا في الإسكندرية وكنت قد نسيت أن ابنه يعمل بالإسكندرية لكثرة ما شغل عقلي بأمور الدروشة..
فقال يذكرني ويعاتبني معا.. اللهم افتح عليه بحق صاحب المقام..
أنسيت أبا خليل.. آه.. ابنك.. تذكرت أنه يعمل بالإسكندرية ثم التفت إلي زوجتي وقال: ليتني نسيت مثلك يا بني.. نعم ليتني نسيته.. ما ذكرني به الشيطان.. يا بني..
قررت أن أزوج أبا خليل من الملاك..
هذا ما صورته لي غفلتي..( عاقبني الله بذكره وأنا علي تلك الحال)..
ظننتها هكذا تكون ضربة معلم.. فتجمع الشمل كله؟؟
ضربة مغفل بعيد عنك وعنها.. وأشار إلي زوجتي.. والله لو كان طردني شر طردة ما تأذيت هكذا..
قلت لك من قبل أنه يسكن في بنسيون عند امرأة أجنبية لا أعرف ملتها.. ولما زرته في المرة السابقة كان قد أصدر تعليماته بشأني فطردت بطريقة مهذبة..
أما هذه المرة.. تصوروا أنه لم يطردني!!!
وهتفت زوجتي: عاد إلي عقله يا حرام!!!
ياللابليس..!! كلما تذكرت كيف تركني أبسط أشواقي وآمالي وأكشف عن لهفة قلبي وأنا في هذه السن.. أعرف الآن لماذا انتحر صديقي فايق داوود!! عم الفساد!!!
فقلت: رحمة الله عليه أن الناس يعذبوننا ويهينوننا حقا.. أما أقرباؤنا.. أما أقرب الأقربين.. أما فلذات أكبادنا.. فإنهم يقتلوننا!!! وغادرت زوجتي مجلسها بسرعة.. فقد بدأ الرجل يبكي وهي ستبكي حتما لبكائه..
وشغلت نفسي برفع أدوات القهوة من أمامها وتركته حتي يهدأ ويتمالك نفسه.. ولكنه لم يهدأ.. وما كنت أتصور قط أن يقول مثل هذا الكلام.. وهو الذي يضحك طول الأرض ولما عدت إليه وجدته يتكلم كمن يهذي..
انتظر حتي كشف مكنون نفسي ثم دعا ميمي وفيفي وزيزي ليشاورهم في الأمر ويسمعني ما وسوس لهن الشيطان من مخاز..
ميمي وفيفي..!!
نعم.. ألا يستشير العريس أهله وعشيرته.. هن الآن أهله وعشيرته أولئك الخاسرات..
زبانية جنهم.. قالت زوجتي: ياللعجب.. لداعي؟؟
هذا ما وصل إليه أمري.. وطبعا تشيعني ضحكاتهن وكلمات الرثاء.. ويبدو أن أخانا في الله قد شك في نيتي.. فعدت إليه أجر أذيال الخيبة فلم أعثر له علي أثر..
وصمت مليا ثم راح يردد: نعم.. انتبهت وآمالي تخيل لي نيل المني باستحالت غبطتي أسفا أي والله أسفا..
تمت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.