دخل عالم المصريات الجليل المرحوم الدكتور أحمد عبد الحميد يوسف أحد متاحف المصريات في ألمانيا. وفوجئ الحضور من المصريين بالرجل يجهر بصوت خاشع أمام أحد التماثيل السلام عليك يا حم أيونو. كيف لرجل تعلم في دار العلوم ودرس الإسلام دينا ولغة وتاريخا يلقي تحية الإسلام علي التمثال. وقف العالم المصري الجليل يلقي علي الحضور درسا بليغا لم نستوعبه حتي الآن. فقد كان التمثال الوحيد النادر للمهندس العبقري الذي صمم واشرف علي تنفيذ الهرم الأكبر. ولابد أن هذا المهندس العبقري قد آمن بملكه وبوطنه ودينه وعمله حتي يأتي بهذه العبقرية المعمارية والإنشائية فاستحق أعظم ما في لغتنا من تحية وتقدير. كان الرجل علي حد تعبير الدكتور محمد صالح يحاول تصحيح مفهوم لايزال سائدا لدي الكثيرين وهو أن نحاكم الحضارة الفرعونية بمقاييس العصر الذي نعيشه أو الدين الذي بشر به النبي بعد زوال تلك الحضارة بألفي عام. في شهر نوفمبر فوجئ العالم بالتليفزيون الألماني يذيع مؤتمرا صحفيا لاثنين من الباحثين الألمان يعرضان ف يه نتائج أبحاث ادعيا القيام بها وهي كفيلة بأن تقلب تاريخ مصر القديمة رأسا علي عقب. وكان من بين ماقالوه إن تاريخ إنشاء الهرم الأكبر يرجع إلي أكثر من عشرة آلاف سنة. جاء هذان بهذه النتائج التي ينكرها علماء المصريات جميعا من أعمال بحثية لا أخلاقية. فهما ليسا من علماء المصريات وإنما من دارسي الفيزياء. جاء هذان الباحثان إلي مصر عبر شركة مصرية سياحية استخرجت لهما من هيئة الآثار تصريحا بزيارة الهرم الأكبر ليوم واحد مقابل رسوم بلغت خمسة آلاف جنيه مع تطبيق جميع شروط التصريح ومرافقة أحد مفتشي آثار منطقة الهرم. ولأسباب تحقق فيها النيابة العامة واللجنة الدائمة للآثار المصرية دخل هذان المغامران الألمانيان إلي أكبر الحجرات الست التي تعلو حجرة دفن الملك. وجيء لهما بسلالم طويلة تمكنهما من الوصول إلي سقف الحجرة المصمم بطريقة تمنع ضغط الحجارة علي حجرة الدفن. وبلغت بهما الوقاحة أنهما صورا أنفسهما وهما يمسكان بإزميل يأخذان به عينات من الحبر الأحمر الذي استخدمه المصري القديم في كتابة اسم الملك خوفو علي الجدران العلوية من الحجرة. ووضعا ما تيسر لهما انتزاعه من علي الجدران في أكياس بلاستيكية وخرجا سالمين غانمين. ولم نعرف بتلك الجريمة حتي أذاع التليفزيون الالماني الجريمة كاملة ومصورة. وحين تحركنا اكتشفنا انهما فعلا الشيء نفسه في مواقع أثرية أخري. ربما كان خوفو هو أشهر ملوك مصر القديمة لارتباط اسمه بالهرم الأكبر ولكن خوفو هو الأقل بين ملوك مصر القديمة الذي تتوافر لدينا عنه وثائق. فكل ما لدينا عنه خمس وثائق فقط ولذلك تعد كل وثيقة كنزا أثريا. ولكن أحد هذه الكنوز لقي التدمير تحت ضربات إزميل هذين الألمانيين المغامرين اللذين وجدت مغامرتهما ترحابا من الفساد والإهمال في مصر المحروسة. الحقيقة هي أن تحرك السلطات المعنية بالآثار كان قويا وجادا في مواجهة هذه الحادثة. ولكن المشكلة هي أن ملف الآثار برمته يحتاج إلي مراجعة شاملة في مواجهة الإهمال والفساد والتجارة والظروف الراهنة التي تعيشها البلاد. الظروف الصعبة التي تمر بها السياحة تركت تأثيراتها علي الموارد المالية لوزارة الآثار وبالتالي لها تأثيرها في منظومة رعاية الآثار المصرية بوجه عام. ولم تعد السلطات الأمنية بحكم مسئولياتها الراهنة قادرة علي مواجهة مافيا الآثار المسلحة في معظم الأحوال خاصة في المناطق النائية. فالدواعي الأمنية أصبحت خطرا يهدد تاريخ الأمة بالضياع. هناك محاولات جادة للحفاظ علي الآثار المصرية. نذكر منها الراحل الدكتور أحمد قدري الذي انهي عهد قسمة الآثار المكتشفة بين البعثات الأثرية وبين مصر وقد كان معمولا بها حتي سبعينيات القرن الماضي. ولاتزال جهود علماء مصريين كثيرين قائمة في استعادة الآثار التي تم تهريبها. وحتي تعود السياحة إلي سابق عهدها, فإن للآثارفي ذمة المصريين ديونا كثيرة. فقد أسهمت لسنوات طويلة في دعم ميزانيات المحليات وأنشطة وزارة الثقافة وزيادة حصيلة البلاد من العملات الصعبة والمحافظة علي مكانة مصر في العالم بأسره. ولن نعجز أن نرد لهذه الآثار شيئا مما قدمته من قبل رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي نمر بها. فالحفاظ علي آثار مصر حفاظ علي هويتها ومكانتها وتاريخها. وهي بمنطق العصر استثمار طويل الأجل سوف يأتي بمردود اقتصادي كبير إن نحن أبقيناها علي حالها علي الأقل.لم تعد حماية الآثار مقصورة علي أساليبنا التقليدية في نشر الخفراء والحراس. فالعالم الآن لديه تكنولوجيا جديدة قادرة علي حماية تاريخنا وآثارنا. ومع ذلك سوف نظل محتاجين كثيرا وطويلا لتغيير نظرة الإنسان المصري لهذا التاريخ وما خلفه من آثار. كان المصريون القدماء يحرسون مقابرهم ضد اللصوص بالتمويه والتخويف والتمائم. وبعد آلاف السنين لم نعد قادرين علي حمايتها بنفر من الحراس يرون أن الدواعي الأمنية أهم من تاريخ يضيع وآثار تتبدد. لمزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين