المصادفة هي وحدها ولا شيء غيرها, فقبل سنوات ثلاث وربما أكثر قليلا, وفي إسطنبول شاهدت فيلم القارئ المأخوذ عن رواية الالماني برنارد شيلينك, واخرجه ستيفين دالدري, ومساء اليوم نفسه كنت علي موعد مع نثرية لمحمد عيسي الشرقاوي وكان محورها العالم يقرأ سور برلين. وفي انطاليا العام الماضي كنت علي موعد مع شريط أخاذ كان موضوعه الأمريكية الألمانية الأصل الفيلسوفة اليهودية العظيمة حنا ارندت, وصاغته سينمائيا المبدعة مارجريتا فون تروتا, ويالها من مفارقة أن أكون بصحبة مقال آخر للشرقاوي تحدث فيه بلغة أقرب إلي الشجن عن معاصر لارندت أنه البريطاني اليهودي اريك هوبسباوم الذي ذاق ايضا, مرارة النازية, وهنا تذكرت كم هي الكتابات التي خصها عيسي الشرقاوي لتلك الحقبة الدامية المرعبة في تاريخ القارة العجوز قبل أن تثور بفضل أبنائها الذين رفعوا راية المقاومة. كان واضحا إذن أن كاتبنا يمقت كل اشكال الفاشية والنظم التسلطية عاشقا للحرية بدءا بروسيا ما بعد القيصرية وبشاعة جوزيف ستالين مرورا بروما موسليني ومقتل الشاعر الإسباني الفذ فيدريكو جارسيا لوركا علي يد زبانية الجنرال فرانكو في إسبانيا انتهاء بثورات جيفارا والليندي في القارة اللاتينية. وعن عالمنا نحن الناطقين بلغة الضاد وزمننا العربي الحالك سواده واستبداده, كانت إسقاطاته موحية مفعمة بالدلالات أليس هو القائل عن الخامس والعشرين من يناير لقد اكتمل بهاء المشهد الاسطوري بسقوط مبارك في ضوء اشراقتها الأولي قبل الانقسام واختطاف المنابر وهنا ملمح مغاير فيه يجسد رفضه المطلق للانغلاق والظلام كاشفا عن تقديسه العقل والتنوير. ما سلكه الشرقاوي من فن التراجم كان آخرون قد سبقوه لكن يحسب له ريادة الأسلوب وسعة أفقه وسرده المتدفق المتناغم مزاوجا بين الادب والموسيقي. صحيح كانت عدمية وفوضوية كاتب تلك السطور سببا في مواجهة مع رجل كان الالتزام والصرامة المهنية سمتين أساسيتين له إلا أنه كان صداما عابرا طائشا, بيد أن الشرقاوي قبله وبعده ظل بالنسبة لهذا العدمي, شعاعا ونبراسا وكل ما يتمناه فيما تبقي له من عمر مسايرة عباراته الجزلة البسيطة والمركبة في آن. لمزيد من مقالات سيد عبد المجبد