آثر الظل.. والظل ثلثا الظلم!!.إذا انطوي علي صادق ابتلعه وأخفاه! والطامة أن يختلط بحياء!!. وأديبنا هذا. يقطر خجلا, فلم يزاحم علي شيء طيلة حياته, ولم يلاحق أحدا لنشر أعماله, وانزوي بداره في الاسكندرية راضيا, مؤتنسا بموهبته, تراوغه تارة وتحنو عليه أخري, لكنه ظل يقرأ بدأب, ويكتب علي مهل, حتي ان آخر رواياته استغرقت خمس سنوات تحت يديه. أخلص للأدب في صمت عبر مسيرته, منذ أواخر الستينات وإلي الآن, واستخدم تكنيك تيار الوعي بلا قصد في أولي وأشهر رواياته سكر مر, فاستحسنه النقاد, ولفتوه إليه فتعقبه في نظريات النقد, واختطه لنفسه نهجا وحيدا, وبرع فيه فباتا لبعضهما صنوين. وبجوار الأدب أغرم بالفن التشكيلي, ولازم رموزه الكبار في الثغر, وهم كثرة, سرياليون وتجريبيون امتلكوا جرأة إبداعية وتحديا خلاقا, فأثرت عوالمهم وألوانهم مخيلته, وشفت تنويعاتهم في أدبه, فاكتسب غموضا محببا يستثير قرائح القراء, ويتطلب جدية في التلقي. وبجانب هذا قدم لنا كتابا مشوقا عن أول نقابة عمالية في مصر نشأت علي يد لفافي التبغ بالاسكندرية, فكانت فاتحة نفاذة للحركات النقابية المصرية. هذا الحوار ربما يراه البعض محاولة لتلوين صورة أبيض وأسود شابها صفار القدم, لكنه في الحقيقة إعادة صورة ملونة زاهية إلي الضوء, أخفاها حياء صاحبها, ونظهرها اليوم عمدا إنصافا للأديب المجد المجيد محمود عوض عبد العال. هل كان تكنيك تيار الوعي هدفا لذاته كما بدا في روايتك المعروفة سكر مر بعيداعن متطلباتها وقت الكتابة؟. حين انتهيت من روايتي الأولي سكر مر عام1969 كنت ما زلت طالبا في السنة الرابعة بكلية دار العلوم, وقدمتها لأستاذي العالم المتمكن حمدي السكوت ليقرأها ويكتب لها مقدمة إذا حازت إعجابه, وكان يتابع ما أكتب من قصص قصيرة من خلال ندوة الاثنين التي أشرف عليها في الكلية, والحقيقة أنني ظللت أياما أعيد قراءة الدراسة النقدية التي كتبها عن الرواية كمن تعرف علي شخص جديد. وكانت معرفتي ب تيار الوعي وقتها سماعية, وبعد مقدمة السكوت دهشت لحالي, فكنت كمن دخل مغارة ووجد نفسه عارفا بكل التفاصيل, وبحثت عن أعمال جويس وجرييه وساروت لمعرفة جذور هذا التكنيك, ووجدتني بداخله من دون علم مسبق, كان كل همي التعبير عن إحباط المصريين بعد نكسة1967 عبر شخصيات سكندرية تتصرف بإرادتها هي, وأطاعها قلمي عن قصد, كانت تلك الشخصيات تسوقني, وتزجرني في بعض المواقف لتؤكد طاعتي لها, وربما ساعد علي هذا ارتباطي بعدد من الفنانين التشكيليين العظام في الاسكندرية, كنت شغوفا بالجلوس معهم وهم يرسمون وينحتون, واقتربت أكثر من السرياليين والتجريبيين وكان حضور أعمالهم في ذهني طاغيا, كانوا نموذجا للجرأة الابداعية والتحدي, وأصحاب مواهب روحية عالية, ينشدون المتعة النفسية بكل كيانهم, ومنهم سعيد العدوي وسيف وأدهم وانلي ومحمود موسي, وعبد الهادي الجزار, وأحمد عبد الوهاب, وداوستاشي, وطارق زبادي, ومريم عبد العليم, وراغب عياد, وفاروق شحاتة, وفاروق وهبة, وحامد ندا, وعبد السلام عيد, ومارجريت نخلة, وغيرهم, كان هؤلاء الرهبان يعملون في صمت, وربما ألهمني تواجدي بينهم وأفقهم الفني الخصب, بجانب حبي للغة منذ حفظت القرآن الكريم في العاشرة من عمري, وبقي مظلتي المحببة حتي الآن, ولهذا لا أقوي علي قراءة عمل معتل لغويا. عند صدور روايتك هذه كان الغالب علي الأدب السرديات الكلاسيكية, ألم تخش تململ القارئ من غرائبية تيار الوعي الذي ربما يصرفه عن الرواية قبل إكمالها؟ ظني أن الكاتب يرتكب محظورا إذا تحدث عن كيفية كتابة أعماله, لأنه يشارك في تفسير جسر عبره, وهو محتشد بالماضي والإيحاء والتداعي والمكر والمناورة, فكيف أشرح لحظة أسلمت فيها نفسي بكل جذور الوعي, واللاوعي, لإرادة الكتابة المحببة إلي روحي رغم ما أعانيه من صخب وضجيج وسطوة الخارج المادي, وعادة أعاني من عدم قدرتي علي قراءة أي عمل روائي بعد الانتهاء منه, تمر شهور قبل أن أستعيد ملابسي العادية, وأستغني عن شخصيات الرواية التي عاشرتها طوال فترة الكتابة, والأنسب لقارئ الأدب الاقتراب من الاتجاهات الحديثة, فمن يزور معرضا فنيا تجريبيا لأول مرة سيقف حائرا, لكنه في المرات التالية سيحس الواقع الفني الجديد, فالمتلقي يحتاج لإعمال الفكر والجدية. زمن سكر مر ساعة ونصف الساعة تقريبا, جلس خلالها بطل الرواية علي مقهي لاحتساء الشاي, وكان الزمن تكئة, أو لازمة للغوص في نفسية البطل, والتسلل منها إلي عالمه الواسع, فبدا أنك تخاطر وقتها بمستقبلك الأدبي, خاصة أنها أولي أعمالك, أم كانت حيلة محكمة لإغواء المتلقي؟ ببساطة مصر وقتها سقطت بكل عنفوانها في الساعة ونصف الساعة هذه عندما ضربت كل مطاراتها تقريبا في وقت مماثل عام1967, لقد كنت أتعامل مع زمن مفقود, وبشر ضائع, ومقومات حياة منهارة, كنا في سياق بطولة نعلقها علي الحائط في كل ركن, ومجرد فرشاة جير أسقطتها, طوتهم في ساعة ونصف.. زمن اللامعقول. في بقية أعمالك اللاحقة بانت عناصر تكنيك تيار الوعي ما يعكس إخلاصا دائما منك له بدرجة لافتة, فهل كان تمسكك به هذا تمردا علي الكلاسيكية, وهل يجب أن يستوعب المبدع كافة الاتجاهات دون الانتصار لأحدها ؟ بعد تجاربي المتعددة في الرواية والقصة ثبت لدي أن تيار الوعي مناسب ومعبر وأيسر السبل وأقواها وأبلغها للتجريد والتحديث وصولا إلي القارئ النابه, فالصوت المكرر والصورة المقلدة واللغة الثابتة عجز, كالحجر الأصم, أحتاج إلي لغة توفر لي راحة التعبير عن إطالة عمر الإحساس لدي القارئ المحترم, القارئ الذي يسعي معي لإعادة صياغة الحياة, عندما قرأت مخطوطة سكر مر علي الحبيب الراحل يحيي حقي في منزله بروكسي علي مدي ثلاثة أيام من السابعة والنصف صباحا إلي الثانية عشرة ظهرا قال لي بالحرف: أشفق عليك من هذه المكابدة.. تكتب ما نتوقعه منك عند الكهولة, وكان وقتها رئيسا لتحرير مجلة المجلة1969, وخلق جلسات فكرية وحوارية مع عدد كبير من مبدعي مصر. والقرآن الكريم بصور من تيار الوعيفي غاية الدقة, ودراستي العميقة في كلية دار العلوم للأغاني للأصفهاني, والعقد الفريد, والجاحظ, وغير ذلك, وصداقتي منذ الجامعة لملك القصة القصيرة يوسف إدريس وحضوري معه ندوات كثيرة في القاهرةوالاسكندرية وكان يدافع عني دائما بقوله: هناك كتابات سهلة التناول مثل روايات الجيب, وكتابات أخري للمختصين والأدباء وراغبي الثقافة. كلامك يعني أن الكاتب الجاد يتوجه مباشرة لقارئ جاد, فهل من حق المبدع أن يدفع المتلقي لبذل جهد في القراءة كما فعل هو في الكتابة؟. أنا كاتب واقعي جدا, وأكثر واقعية من السرديات التقليدية, ولا أبغضها, وشديد الاعجاب بتيمور وحقي, وأتمني أن يلتفت النقاد مجددا لقصة لوح ثلج لمحمود تيمور التي نشرها عام1965 بمجلة القصة وتنبأ فيها تفصيليا بهزيمة1967 في لغة وتكنيك تفوق تشيكوف بمراحل, والكتابة بالنسبة لي جلسات علاج صوفية تراهن علي صمت الضحية أغلب الوقت, وأشعر أنني بين قوسين.. أفهم أني بدأت ولا أعرف مخابئ الرحلة.. وكأني حريص علي خلع ملابسي من الحزام الناري الذي يلف وسطي ورأسي, لا أقبل صفة الحكاء لمبدع, وللأسف هم كثيرون اليوم, مجرد كتابات تشبه ما يكتب في صفحات الحوادث, وعندهم طاقة جهنمية في الاسترسال الممل لعشرات الصفحات, والثلاثيات والرباعيات, وكأن القارئ يمكن خداعه بالنشر والانتشار والمطاردة بالمطبوعات الفاخرة. ربما يري البعض تيار الوعي في أعمالك مجرد تكنيك, وربما يري غيرهم أنه حاز رضاك نفسيا لمواجهة إحباطات الواقع, وعلي نحو ما يثأر لك من حياة خيبت آمالك بدرجة مؤلمة, وحرمتك مما تستحق, فأيهما أصح؟ بعد رواية سكر مر اكتشفت أن تيار الوعيصديقي وروحي, وهو أدق مترجم لما أشعر به بين الناس, وأراه, وأتمناه مثلهم. وما عانيته جعلني مثل البرجل النحاسي الذي صدأ مسمار تحريكه, وثبتت حركته في دائرة تيار الوعي.. موزعا للسجائر, ومأذونا شرعيا, ومصححا بالمطابع, ثم موظفا محترما, بكل جوارحي أكتب لأحقق الطمأنينة لأبطالي التائهين المقهورين. غيابك شبه الكامل عن الواقع الثقافي المصري هل يرجع لحيائك الزائد, وتعففك, أم مشاغل الحياة الصعبة, أم أن الجزء الغاطس من سفينتك أكبر من ظاهرها, وهناك ما لانعرفه؟ الجزء الغاطس من السفينة أكبر من الظاهر تعبير أسعدني وجدد روحي, فالسفينة تقوم علي نفسها بنفسها عبر العمر, ومنذ سنوات شاركت في ندوات ولقاءات فوجدتني متورطا في قراءة عدد كبير من مجموعات القصة وروايات مزدحمة بالأخطاء اللغوية, الأساس اللغوي غائب لديهم, وهذا من أسباب عزوفي. حين انشغلت بالتجهيز لحوارنا هذا استوقفتني دراسة لك عن النقابات العمالية في مصر خلال مائة عام, بدأت علي يد لفافي التبغ1899 وثقتها في كتابك الحركة النقابية لعمال التبغ, فما سبب اهتمامك بالشأن النقابي؟ الوفاء لأناس عشت بينهم سنوات طويلة, جيش من عمال التبغ المطحونين, وخلال البحث عرفت أن رقاب عمال مصر معلقة بما يسمي النقابات, والدور النقابي لعمال مصر الآن فقد صلاحيته وأصبح لافتة شاحبة لوهم الدفاع عن حقوق العمال, وهو نفس ما آلت إليه اتحادات الطلاب الجامعية, وعمال لفافي التبغ كانوا أول من أنشأ نقابة في مصر, واضرابهم عن العمل بقيادة نقابتهم كان الأول من نوعه في مصر للمطالبة برفع الأجور وتخفيض ساعات العمل. نعم.. ما زال الأدب أقوي وأجمل شيء في الحياة, وليس هناك ما يمنعني عن الكتابة, وانتهيت مؤخرا من رواية جديدة عنوانها ضابط احتياط واستغرقت خمس سنوات كتابة, بمعمار تيار الوعيذاته, وإحساسي بالمكان هو الذي شكل شخصيات هذه الرواية التي أتمني أن تجد طريقها للقارئ, وأفضل نشرها مسلسلة في ملحق الجمعة بالأهرام.