ما نقصده بالعلم هنا هو العلم منذ تكوينه الأول في صدر الدولة العباسية وعصر الخليفة المأمون. وقد شهدت الدولة العربية أشكال شتي من نظم ا لحكم شملت الخلافة وحكم السلاطين والملوك والأمراء والجمهوريات في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي حتي القرن التاسع عشر. وقد شهدت تلك الفترة الطويلة من الزمن صعود وازدهار تلك المجتمعات كما شهدت تدهورها وهزيمتها. وبين هاتين الحالتين, الصعود والتدهور, عكس العلم العربي أبعاد هذه الأزمة وخلفياتها الفكرية. ويمكن القول أن لحظة صعود الدولة العربية هي نفسها لحظة صعود وازدهار العلم العربي, كما أن لحظة هزيمة الدولة العربية هي ذاتها لحظة هزيمة وتدهور العلم العربي. وليس صحيحا ما يردده البعض من أن لحظة أفول الدولة العربية في نهاية عصر المماليك الشراكسة, شهدت صعود الدولة العثمانية, كما شهدت أكبر رموز الفكر التاريخي وعلم الاجتماع السياسي والاقتصادي ممثلا في ابن خلدون(1332-1406 م). وهما حدثان يثبتان ما ذكرناه. فالدولة العثمانية كانت دولة عسكرية في المقام الأول لم تضف إلي الفكر العربي ولا إلي الفكر العلمي. كما أن ظهور ابن خلدون كان في نطاق الإبداع الفردي, ولم يكن في ظل مدرسة فكرية مميزة, كما أن إنتاجه الفكري ظل محدودا, فلم يكن له أتباع أو مدرسة فكرية ممتدة بعد وفاته, اللهم تابع واحد وهو تقي الدين المقريزي(14411364 م). تزامن صعود الدولة العربية مع صعود وسيادة العلم العربي في العالم حتي عصر النهضة وظهور العلم الأوروبي الحديث في القرن السادس عشر. وقد كانت لحظة أفول العلم العربي هي نفسها لحظة الصعود لعلم آخر له تصورات ومناهج جديدة يملك القدرة علي حل المشاكل المعقدة التي بدأ يواجهها العالم عندئذ, مثلما كانت لحظة أفول العلم اليوناني هي نفسها لحظة صعود العلم العربي في القرن الثامن الميلادي. كانت لحظة أفول الدولة العربية وتراجعها هي لحظة سقوط غرناطة عام1492 م. وقد كان السبب الظاهر لتلك الهزيمة الكبري هو الضعف العسكري والاقتصادي لدولة بني الأحمر بغرناطة وسيادة الصراعات الداخلية. لكن المقدمات الأساسية لتلك الهزيمة تعود إلي ما قبل ذلك بقرن ونصف من الزمان عندما عجز الطب العربي عن مقاومة وباء الطاعون الذي أتي علي غالبية سكان الأندلس من المسلمين. وعندما وقف جمهور الفقهاء حائلا أمام النظرية الطبية الجديدة التي قال بها لسان الدين ابن الخطيب(13791313 م). كانت المقدمات هي تبني الفكر العربي للتقليد ورفض الاجتهاد. كانت المقدمات هي الإصرار علي تبني النظرية الطبية الموروثة من اليونان ورفض النظرية الطبية الجديدة العربية الأساس, ولهذا كانت البداية هي ضياع غرناطة. لم يلاحظ الأطباء المسلمين في الدولة المملوكية ثم في الدولة العثمانية في غرب العالم الإسلامي, ولا في الدولة الصفوية بإيران أو الدولة المغولية في الهند في شرق العالم الإسلامي كيف استطاعت المجتمعات الأوروبية مقاومة وباء الطاعون منذ عام1450 م. ولم يحدث أي تداول أو تعرف علي الرسالة الطبية المنطقية لابن الخطيب ولم يلاحظوا النظرية الطبية الجديدة التي كانت انقلاب حقيقي علي النظرية الطبية القديمة, وهي النظرية التي انتقلت من الأندلس إلي مدن الشمال الإيطالي. واستمر الأطباء المسلمين في كل المجتمعات الإسلامية في تبني النظرية الطبية القديمة حتي القرن التاسع عشر حيث استخدمت هذه المجتمعات الأطباء الأوروبيين في مقاومة الطاعون. ما حدث في كارثة الطاعون يعكس حالة العلوم الأخري, وهي حالة العزلة عن التيارات العلمية والفكرية التي تمت في أوروبا منذ القرن السادس عشر, وبالتالي الجمود والتخلف العلمي. حدث أول احتكاك منظم بالعلم الأوروبي في مصر, مع فترة حكم محمد علي باشا(18491805). وذلك من خلال تطبيق1- نظام التعليم ثلاثي المراحل, المرحلة الابتدائية( المبتديان) والثانوية( التجهيزية) ثم مرحلة المدارس العليا, حيث أنشأ محمد علي مدارس متخصصة في كل فروع العلم.2- إرسال البعثات.3- استقدام الخبراء والعلماء الأجانب وقد كان من نتيجة ذلك تكوين مجتمع علمي ونخب علمية جديدة خلافا للنخب التي كانت موجودة قبل عام1798 م. هذا, وقد حدث توسع كمي في تكوين هذه النخب بتطبيق هذه الخطوات الثلاث في كل من عصر الخديو إسماعيل(1863-1879) وعصر ثورة يوليو(1952-1967). رغم أن الدولة في المشاريع الثلاثة هي التي قامت بتمويل الإتفاق علي تكوين وإعداد هذه النخب إلا أن توظيفها واستخدامها لتلك النخب العلمية كان محدودا وقاصرا. فقد اقتصر توظيف الدولة لهذه النخب العلمية علي نقل الجانب التقني للعلم الأوروبي, إنشاء المصانع, بناء الجيوش, إقامة المشاريع. كما أن تلك النخب تجاهلت تماما توصيف أو تحليل المبادئ والمرجعيات الفكرية التي قام علي أساسها العلم الأوروبي. كان الاهتام دائما من الطرفين, النخب السياسية من جانب والنخب العلمية من الجانب الآخر, بالجاهز من النتائج والسريع في النقل. ولهذا لم تدرك تلك النخب ولم تلاحظ, وحتي هذه اللحظة, أن وراء التقنيات نظرية للعلم, وأن تلك النظرية هي بالضرورة مستمدة من مرجعيات فكرية وميتافيزيقية أعلي منها. وهو ما يماثل بالضبط عدم ملاحظة الأطباء المسلمين لمدة خمسمائة عام, للتحول الذي جري من النظرية الطبية القديمة إلي أخري حديثة مكنت أوروبا من مقاومة وباء الطاعون. كان تعاملنا مع العلم الأوروبي في المشاريع الثلاثة هو الأخذ بالسهل, تقليد العلم ونقل التكنولوجيا), وعدم الاشتباك مع الصعب( استيعاب النظريات العلمية بغرض إنتاج العلم). وهو مذهب انتقائي له نتائج سلبية علي المجتمع, فبعيدا علي إنفاق الأموال بدون عائد مواز, فالتكنولوجيا عملية جزئية وانتقائية في التطبيق سواء من حيث المكان أو الزمان. ومن طبيعة النظرية العلمية, الكلية والعمومية والاستمرارية, كما أن من طبيعتها النظام والتنظيم الذي يشمل المجتمع كله بجميع طبقاته وفئاته. وهو ما يؤدي إلي التغيير الحقيقي الذي يشمل المفاهيم والسلوكيات. ونتيجة لهذا الخيار السهل والمر في نفس الوقت, أنه لا النخب العلمية أو السياسية ولا طبقة المتعلمين رغم اتساعها استطاعت النهوض بالمجتمع نهضة حقيقية تستطيع مواجهة التهديدات الخارجية, وهو ما أدي إلي انهيار هذه المشاريع ذاتها. فمشروع محمد علي انتهي بالإذعان لاتفاقية لندن عام1948 م وتفكيك الجيش المصري, ومشروع الخديو إسماعيل انتهي بهزيمة ثورة عرابي1882 والاحتلال البريطاني لمصر, ومشروع ثورة يوليو انتهي بهزيمة عام.1967 لمزيد من مقالات د.احمد عبدالجواد