ليس هذا مقالا مع أو ضد النجم الساخر باسم يوسف أو برنامجه الشهير, بل هو بمناسبة منع هذا البرنامج كمكون من جهد الحكومة المؤقتة لتقييد الحريات في هذه المرحلة الانتقالية الثانية. ولتتضح الصورة فأنا أعني بالحكومة كلا من الرئاسة المؤقتة وفريقها, والوزارة التي عينتها برئاسة حازم الببلاوي واللجان التي أنشأتها لتعديل الدستور, مجتمعة. مجمل هذه الهيئات القائمة علي إنفاذ خريطة المستقبل, التي توجت الموجة الكبيرة الثانية من الثورة الشعبية العظيمة, هو ما أوجه له النقد هنا. ساءني أن حاول أحمد المسلماني المستشار الإعلامي للرئيس المؤقت التملص من فضيحة إيقاف البرنامج, بالقول أن القرار جاء من القناة الفضائية التي كانت تتبناه وليس للحكومة شأن به. ومناط لوم السيد المستشار هو تجاهله, وهو الإعلامي البارز في الأصل قبل المنصب الزائل يوما, لحقيقة أن مسئولية الحكومة, ومسئوليته شخصيا كمسئول إعلامي في فريق الرئاسة المؤقتة, هي حماية الحرية ولو من تعدي اصحاب القنوات الفضائية. مسئوليته هي حماية حرية وسائل الإعلام, وبدلا من ذلك انبري للدفاع عن الحكومة بمنطق بيروقراطي سقيم ومعاد لاعتقاده المفترض بحماية حرية التعبير عن الرأي. ويدعم موقفي هذا الاعتقاد الجازم المستقر في العلوم الاجتماعية والسياسية بأن تلازم الحرية والإبداع هو المحرك الأساس للتقدم البشري. أو هما جناحا طائر التقدم. ومن ثم, فإن أي مجتمع أو نظام حكم يقص أحد هذين الجناحين, يحكم علي الوطن بالتخلف والركود. فما بالك بمن يقص الجناحين سويا؟ والإبداع لا يزدهر إلا في مناخ تمام الحرية. ومن هنا فإن الحرية هي أم التقدم كما هي غايته. خطورة موقف منع البرنامج, أو الدفاع عنه أوالتعايش معه, هي أنه يضرب حرية التعبير وقيمة الإبداع سويا, ناهيك عن التعدي علي خصيصة أصيلة تميز الشعب المصري, هي خفة الدم وحس الفكاهة. كما ان الرقابة الذاتية أشد تعبيرا عن الاستبداد من تلك الرسمية فهي المرحلة الأعتي من القهر وأشد مهاوي الاستبداد التي تتواري بجانبها سوءات الرقابة الرسمية المباشرة. لأنها تعني تغلغل الخوف من السلطة في نفوس الناس, عندما يشعر المبدع أو المسئول عن وسيلة إعلام أن عليه قيودا لا يتجاسر علي تجاوزها, ويفرضها علي نفسه بنفسه. إن من يمارس الرقابة الذاتية تملقا لأولي الأمر إنما يسيئ أشد ما يسيئ إلي أولي الأمر انفسهم, إذ يفضحهم بأن تقييدهم للحرية ماعاد يتطلب رقباء رسميين لتغلغل الرعب في النفوس. وعليه فإن الكاتب من حيث المبدأ ضد اسلوب المنع من التعبير, فحرية التعبير هي المعقل الأخير لأنصار الحرية والحكم الديمقراطي السليم. فما لم يرتكب صاحب قلم, أو لسان أو كاميرا, جريمة يعاقب عليها القانون, أو تجاوز يدينه ميثاق شرف, فالأصل لو كنا نحرص علي الحرية والحكم الديمقراطي السليم أن يرد علي صاحب الرأي برأي معارض, ليس إلا. ولينتصر الشعب, وليس الرقيب أيا من كان, للأكثر إقناعا وإبداعا. ولهذا لم يكن هذا الأمر ليعنيني لو منع البرنامج بحكم قضائي واجب النفاذ بسبب تجاوز يعاقب عليه القانون أو حتي بقرار من مجلس مستقل يقوم علي ضبط أداء وسائل الإعلام حسب ميثاق شرف واجب الاحترام, مازالت الحكومة ومجتمع الإعلاميين للأسف يتباطأ كلاهما في الاتفاق عليه وإصداره. غير أن الحكومة المؤقتة لم تتوقف عند تقييد حرية التعبير. تتالي انتهاكات للحقوق والحريات في ظل هذه الحكومة المؤقتة, لا يصح أن تقدم عليها حكومة غير منتخبة جاءت بعد الموجة الثانية الكبيرة من الثورة الشعبية العظيمة التي قامت احتجاجا علي الحكم التسلطي الفاسد. والمهمة الأساس لهذه الحكومة هي إنفاذ خريطة المستقبل التي توجت هذه الموجة الثورية وصولا لإقامة الحكم الديمقراطي السليم. ولا يتسع المقام لتفصيل جميع الانتهاكات ولذلك اكتفي بالإشارة إلي قانون تنظيم حق التظاهر وقانون تجريم رسم الجرافيتي وعدم إقرار حق الاعتصام والإضراب السلمي في مشروع الدستور. وحيث بان جليا للجميع إخفاق هذه الحكومة في مهمتها الأساس أو في أي مهمة تناصر غايات الثورة الشعبية, يبدو أنها اختارت توظيف التشريع لتقييد الحقوق والحريات للتغطية علي فشلها وتفادي عاصفة النقد التي تستحق أن تقوم اعتراضا عليها أو إجهاض موجة تالية من الثورة الشعبية التي ستواجهها لا محالة مادامت الظروف الموضوعية لاندلاع الثورة الشعبية قائمة, وزادها فشل الحكومة المؤقتة استعارا. ونقول لهم إنهم سيفشلون في هذا المسعي الخبيث, كما فشل من قبلهم, ومن سبقوهم. فقمع الحريات لن ينتج إلا مزيدا من المقاومة وقد يؤجج العنف. ويبدو أنهم يفهمون هذا فبدأوا في إصدار قانون يحصن كبار المسئولين عن تصرفاتهم أثناء تولي المسئولية. الحكومة المؤقتة وقعت في خطأ مزدوج, بأن سارت علي نهج حكومة اليمين المتأسلم في إصدار قوانين خاصة بتقييد الحريات في غيبة مجلس الشعب, وأهملت قوانين وقرارات أكثر شعبية وإلحاحا تسهم في تحسين مستوي معيشة الناس وتفعيل متطلبات الانتصار لغايات الثورة, والعدالة الانتقالية الناجزة, والتحقيق النزيه في قائمة الكوارث الطويلة التي وقعت اثناء حكمها القصير. ولا مناص, في النهاية من الإشارة إلي تجاوزات الشرطة العابرة لكل العصور والتي تكشف عن الحاجة الملحة لإصلاح جذري لقطاع الأمن, بشقيه المدني والعسكري, بحيث تصبح عقيدته وغاية سلوكه ضمان أمن المواطنين واحترام حقوقهم. تلك المهمة المحورية التي تجاهلتها جميع الحكومات بعد الثورة طمعا في توظيف قطاع الأمن لمصلحتها ومحاول تملقه بتجنب إصلاحه وتطهيره. مع كل الاحترام لتضحيات رجال الشرطة في مواجهة الإرهاب الخسيس لفلول اليمين المتأسلم فلابد من الإقرار بأن الشرطة تجاوزت وانتهكت حقوق المواطنين في عهد مبارك ثم المجلس العسكري, ثم محمد مرسي, ثم تحت الحكومة المؤقتة الآن. يبدو أن الشرطة تعوض قصورها في حصار الإرهاب واستمرار التسيب في الشارع المصري, وفي القبض علي المتهمين بقيادة الإرهاب بأوامر من النيابة, والدليل علي ذلك هروب عاصم عبدالماجد, وطارق الزمر, وغيرهما من زعماء الجماعات التكفيرية الإرهابية الذين اشعلوا نيران الإرهاب, بينما يتصدي بعض أفراد الشرطة للمتظاهرين والمتظاهرات بالصفع والركل بالأرجل. ومع ذلك لم ينجح قطاع الأمن في حماية أمن الوطن بدلالة الاختراقات الجسيمة التي اقترفتها قيادات اليمين المتأسلم قبل وبعد وصولهم للسلطة, والصمت المطبق من أولي الأمر جميعا عن سرقة إسرائيل لثروة مصر من الغاز الطبيعي من داخل حدودها البحرية, بينما تتسول الحكومة المشتقات النفطية من المحسنين. لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى