آفة من آفاتنا في العصر الحاضر أننا مشدودون باستمرار للتفكير في الماضي سواء الماضي البعيد أو الماضي القريب. ولا شك أن ذلك ليس عيبا في ذاته; فالتفكير في الماضي ربما يكون دافعا لأن نعيش حاضرا أفضل ونحلم بمستقبل أكثر رخاء وازدهارا. إن استعادة الماضي أصبح في نظر الكثيرين منا هو الحلم الذي نحلم به. وأصبح هو الواقع الذي نتمني أن نعيشه. وفي هذا يكمن الخطأ الكبير في حياتنا المعاصرة; فليس معني أن ماضينا حافل بالإنجازات الحضارية الهائلة التي حققها الأجداد سواء في العصور الأولي للتاريخ الإنساني حيث نجحوا في صنع أولي الحضارات الكبري في التاريخ, أو في العصور الإسلامية الزاهية التي نجحوا فيها أيضا في استعادة الريادة الحضارية من جديد بفضل إيمانهم العميق بالدين الإسلامي وفهمهم الدقيق لدعوته إلي العلم والعمل بموجب إيمان قوي بالله لا يعرف حدودا للاجتهاد ولا يضع قيودا أمام أي إبداع في أي مجال من مجالات الحياة. أقول ليس معني أن أجدادنا قد حققوا تلك الريادة الحضارية أن نركن نحن إلي اجترار ما أنجزوه ونظل نتغني به إلي مالا نهاية فيكون التغني بأمجاد الماضي بديلا عن العيش في الحاضر والتفكير في المستقبل. ولنتذكر دائما أن إنجازات هؤلاء الأجداد كانت بفضل جهدهم وفهمهم العميق لرسالة الإنسان في الحياة; فلقد تحلوا بأكبر قدر من الصبر والشجاعة حينما حولوا كل الظروف الطبيعية والبيئية غير الملائمة لحياة الإنسان إلي ظروف تخدم الإنسان وإلي عوامل تساعدهم في بناء حياتهم المدنية التي أسسوها لأول مرة علي ضفاف النيل. ولقد تحلوا بأكبر قدر من التحدي الحضاري لتلك الظروف غير المواتية بما أبدعوه من علوم تحدت الزمن وتحدوا بها الواقع بل واخترقوا بها حاجز المستقبل. ولا شك أن ما خلفوه لنا من شواهد حضارية من مبان عملاقة وآثار لا تزال تتحدي الزمن هو خير ما يؤكد أنهم إنما نجحوا في اختراق حاجز الزمن والمستقبل, ولذلك صنعوا ما صنعوه آملين أن تراه الأجيال التالية جيلا بعد جيل وتندهش عقولهم أمام إنجازات هؤلاء الأجداد!! ونفس الشئ فعله أجدادنا من المسلمين الأوائل أولئك الذين فهموا دينهم خير فهم وأدركوا أن إعجاز القرآن جاء من تحدي العقل الإنساني وكمن في دعوته إلي إعمال العقل واستخدام العلم إلي أقصي حد ممكن فانطلقوا يبنون في كل مجالات الحياة, فمن إبداع العلوم الشرعية والدينية, إلي إبداعات شتي في مختلف العلوم طبيعية كانت أوإنسانية, إلي إبداعات فنية وأدبية ومعمارية, إلي إبداعهم الأهم والأشمل وهو تلك الريادة الحضارية التي حققوها من خلال هذه الإبداعات الجزئية فكونوا تلك المنظومة الحضارية الفذة التي صدروها إلي العالم الغربي في يسر وبساطة وبغير افتعال أو غرور. إن تحدي ظروف الواقع هو ما يخلق الإبداع في الحاضر ويصنع لدي الأمم والشعوب الحافز لاختراق حاجز الزمن والريادة في المستقبل. ومن ثم فإنه إذا كان لنا بحق ماضي نزهو ونفتخر به, فليكن منه ذلك الزاد الذي نهضمه درسا يدفعنا لتفهم كيف يكون تحدي ظروف الواقع المعاش, واستثمار كل الإمكانيات المتاحة لصنع الريادة والتقدم الآن وفي المستقبل. وإذا نظرنا حولنا لنر كيف يصنع الرواد والمتقدمون في هذا العصر ريادتهم وتقدمهم, فلن نجد لديهم إلا أمرين لا ثالث لهما: علم وعمل; تفوق علمي مطرد يدفعهم باستمرار إلي مزيد من تهيئة ظروف الإبداع العلمي في مختلف ميادين العلم ثم استثمار لهذا الإبداع العلمي وتحويله إلي تكنولوجيا تحل مشكلات الواقع وتواجهها بكل حسم. ومن ثم تتحسن حياة الإنسان الغربي عاما بعد عام وقرنا بعد قرن. واطراد هذا التقدم العلمي بشقيه النظري والتطبيقي يستند علي عقول لا يقف أمام إبداعها أي عوائق مادية كانت أو سياسية أو اجتماعية; فالكل هناك يدرك أن إبداع المفكرين والعلماء هو طريقهم إلي التقدم. ومن ثم فلا سلطة أيا كانت تحد من إبداع هؤلاء, بل كل الإمكانيات متوفرة لهم ولديهم بحيث لا يعودوا يفكرون إلا فيما يبحثون فيه وفي مكتشفاتهم الجديدة. وتخرج نتائج هذه الأبحاث في مختلف مجالات الفكر والعلم من عقول ومعامل أصحابها لتجد طريقها فورا إلي حياة الناس, فيتم علي أساسها تطوير المصانع والمزارع وطرق الحياة المختلفة فيزداد إيمان الناس بأهمية العلم والتكنولوجيا في تطوير حياتهم وتحسين ظروفها بل وحل كل المشكلات التي يعانون منها أيا كان حجمها ومجالها, وهكذا تبدو سيمفونية التقدم!! وهذه ليست سمة تتميز بها المجتمعات الغربية فقط, بل هي سمة كل شعب يريد أن يتقدم فبالتفكير العلمي في مشكلات الحاضر والتوجه نحو المستقبل خطت شعوب شرقية عديدة خطوات رائدة نحو السيادة في المستقبل مثل اليابانيين والصينيين والكوريين, بل والهنود والباكستانيين, بل وشعوب صغيرة العدد أصبحت كبيرة القدر والقيمة مثل شعب سنغافورة وشعب تايوان وهونج كونج. إننا لسنا أقل من هذه الشعوب أملا في صنع الحياة الأفضل لأنفسنا وللآخرين, وكل ما ينقصنا هو امتلاك إرادة التقدم وأن يأتي الفعل مساوقا للإرادة ومكافئا لها. إننا نملك من إمكانات التقدم البشرية والمادية ما لا تملكه هذه الشعوب, ونملك من الدافع الديني والتاريخي ما ليس لدي هذه الشعوب. وكل المطلوب هو أن نغير نمط تفكيرنا, من نمط يفكر محكوما بتقديس الماضي واجتراره, إلي نمط لا يفكر إلا في المستقبل بشكل يتوافق فيه علمية التفكير مع الحفاظ علي التوازن بين تحقيق مطالب الروح وتلبية حاجات الجسد. إنه التفكير في المستقبل بعيون غربية وروح شرقية- دينية. H أستاذ الفسلفة بجامعة القاهرة لمزيد من مقالات د. مصطفي النشار