لأن الإعلام دائما مرآة المجتمع وتعبيرا عن كل مشكلاته وقضاياه, فإن الدول الشمولية لديها ما يكفي من المبررات لفرض قيود لا نهائية علي وسائل الإعلام وتقييد حريات الصحافة بزعم دعم ركائز حكمها في الداخل من جهة وتحسين صورتها دوليا من جهة أخري خاصة إن كانت تلك البلدان تطمح للتأسيس لنظام عالمي جديد وقلب موازين القوي في العالم. فرغم أن الصين منذ أمد بعيد وهي محط انتقاد لاذع من كل مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان وحرية الصحافة, الا أنها لا تتراجع لحظة عن إعادة النظر في سياساتها وتطوير أفكارها علي نحو يتماشي أو علي الأقل يتناسب مع السرعة التي يقفز بها مؤشر نموها الاقتصادي. الحزب الشيوعي الصيني الحاكم, من جانبه, يعي جيدا أن نزعات التمرد آخذة في التعاظم بين مواطنيه الذين بدأوا بالفعل في الخروج في مظاهرات وتنظيم احتجاجات يائسة علي أمل ان تستمع الحكومة لمطالبهم, ولايري في الإعلام إلا وقودا يغزي تلك النار الكامنة تحت الثري لذا يتصدي بكل حزم لأي محاولة اعلامية لنشر أخبار سلبية عن البلاد ابتداء من ملف إقليم التبت وحتي ثروات المسئولين حاليين كانوا أو سابقين. ويركز في حربه الشرسة بالأساس علي وسائل الإعلام الأجنبية العالمية ظنا منه أنه يحكم قبضته جيدا علي إعلام الداخل, ولكن يبدو أن الحزب الصيني خاصة بعد واقعة صحيفة' نيو إكسبرس' الأخيرة بات عاجزا عن تقدير الأمور بشكل سليم بعد أن أوشكت القنبلة الموقوتة علي الانفجار. فالصحيفة المحلية الصينية الصادرة في إقليم جوانج دونج كتبت في صدر صفحتها الأولي قبل أيام في عنوان رئيسي'' نرجو إطلاق سراحه'',في إشارة إلي أحد صحفييها الذي قامت الشرطة باعتقاله مؤخرا بعد كشفه عن بعض أعمال الفساد بشركة زومليون, ثاني أكبر الشركات المصنعة لمعدات البناء في الصين, والتي تملك الحكومة جزءا منها. وقالت الصحيفة في افتتاحيتها,في مثال نادر علي تحدي الإعلام الصيني للسلطات الرسمية:'' يجب أن نعبر عن رأينا بخصوص احتجاز تشن يونج تشو الذي أصبح شخصا مسكينا مستهدفا من قبل أجهزة الأمن لمجرد كتابة تقارير تنتقد شركة زومليون. تشو ظهر بعد افتتاحية الصحيفة بساعات علي شاشات التليفزيون ليبدي اعتذاره عن نشره أخبارا كاذبة عن العملاق الصيني مقابل المال والشهرة.ونقلت الشرطة عن تشن بأنه يود الاعتذار إلي زومليون والمستثمرين في الأوراق المالية بنفسه بل وتحذير أقرانه حتي لا يقعوا في نفس الفخ الذي وقع به. وبغض النظر عن مدي صحة تصريحات تشو الأخيرة وما إذا كان تمت بضغوط من الشرطة أو غيرها, فإن الواقعة لاقت صدي كبيرا لدي المواطنيين حيث علقوا علي موقع التواصل الاجتماعي'' وايبو'',الذي أسسته السلطات الصينية كبديل عن فيس بوك وتويتر, وأظهرت الأغلبية دعمها للصحافة الحرة في مواجهة الشرطة.وكتب لوه بينج, نائب رئيس تحرير مجلة الأعمال كايجينج وأحد أبرز الصحفيين المناهضين للفساد في الصين, معلقا:'' إذا أصرت شركة زومليون علي أن الصحفي أساء استخدام سلطته الإعلامية, عليها أن تذهب إلي المحكمة لمقاضاة'' نيو اكسبرس'', بدلا من جعل الشرطة تعبر المقاطعة لاعتقاله''. من جهتهم, ركز المراقبون علي الطفرة التي طرأت علي الإعلام الصيني بمبادرة نيو اكسبرس.وقال تشان جيانج, أستاذ الإعلام في جامعة بكين للدراسات الأجنبية:'' هذه صرخة من الصحافة الصينية..نادرا ما يسمع الصوت بهذا العلو الكبير.''أرجو إطلاق سراحه.. هذه الكلمات الثلاث كبيرة جدا ونادرا ما نراها''. لكن لم يتطرق أحدا البتة للأسباب التي أدت إلي ذلك التمرد غير المسبوق بين إعلامي الدولة..الإجابة ربما جاءت بشكل ضمني في تقرير منظمة فريدوم هاوس قبل أشهر حول أوضاع الصحافة والصحفيين في الصين وهو انشغال الدولة الزائد عن الحد في قمع إعلاميي الخارج, معتبرة انهم الخطر الحقيقي الذي يهدد استقرارها وحلمها الأكبر في أن تكون القوة العظمي القادمة. ورصدت المنظمة في تقريرها العديد من التكتيكات والاستراتيجيات التي تسيطر من خلالها الصين علي الإعلام الاجنبي كان أبرزها اللجوء إلي الهجمات الإلكترونية وإعاقة عمل الصحفيين الأجانب ورفض منحهم تأشيرات الدخول للصين كما حدث مع صحيفة نيويرك تايمز قبل أشهر عندما تطرقت إلي تعاظم ثروة رئيس الوزراء الصيني السابق ويين جياباو, فقام قراصنة الحكومة باختراق موقعي الصحيفة الصادرين باللغة الصينية والإنجليزية لتهبط أسهم الصحيفة في يوم واحد بنسبة20 % علي نحو يجبرها علي إعادة عقودها مع الجهات المعلنة.كما نوه التقرير إلي أن الدولة تتبع النهج الأكثر قسوة مع الصحف المستقلة الصادرة من الخارج وموجهة للشعب الصيني بلغته, حيث تعمل بكل اإمكانياتها علي إضعاف الوضع المالي لتلك الصحف, فضلا عن تقويض قدرتها علي التوزيع داخل الأراضي الصينية.