في الاقتصاد تعد الأسعار الآلية الأساس لعمل الأسواق. ولكي تحقق الأسعار الغرض منها في عمل الأسواق بكفاءة يتعين أن تكون معلومة لجميع البائعين والمشترين ومحترمة من قبلهم جميعا وان يتساوي البائعون فيما بينهم والمشترون فيما بينهم في القوة والقدرة علي التعامل. وكي يحقق السوق, من خلال الأسعار, الصالح العام, يجب أن يمتنع المتعاملون في السوق عن الممارسات اللاأخلاقية مثل الغش والخداع. ويعد الاحتكار أسوأ نقائص السوق, فالمحتكر يخضع السوق وجميع المشترين لسطوته, ولا يتوخي إلا تعظيم أرباحه, ولو أدي ذلك إلي تخريب السوق والإضرار بالمشترين وبالسوق ذاته. ولنبدأ بسوق سعر الصرف لأهميته المحورية في الاقتصاد المصري الذي يعتمد علي الاستيراد من الخارج لكثير من السلع الاستهلاكية ومستلزمات الإنتاج المحلي. احتجت منذ اسابيع لمبلغ بالدولار وكان سعر الصرف المعلن من البنك المركزي سبعة جنيهات للدولار. ولكن المصرف الذي اتعامل معه اعتذر عن إتاحة الدولارات المطلوبة لأن البنك المركزي لا يسمح له ببيع الدولار, فلم يكن امامي إلا أن اسعي مكرها لأحد محال الصرافة. وعندما دخلت المحل وجدت اللوحة المعلقة تعلن عن سعر البنك المركزي, ولكن عندما حاولت التعامل مع الموظف طلب سعرا أعلي للدولار, وعندما تساءلت, قال ساخرا مشيرا إلي السعر المعلن: لا أحد يتعامل بهذا السعر! فصل القول, مادامت البنوك لا تسمح بشراء الدولارات منها ولو لعملائها, لا يبقي لمن يريد عملة أجنبية إلا اللجوء لمحال الصرافة والسوق السوداء, ومن ثم يظل السعر الرسمي المعلن وهميا وتجري المعاملات وتتحدد الأسعار, في الاقتصاد كله في هذه الحالة, بناء علي سعر العملات الأجنبية خارج النظام المصرفي. ولذلك, كما لاحظ قارئ فطن علي مقال سابق لي عن الغلاء, فإن الأسعار في الأسواق تشتعل كلما ارتفع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه, ولكنها لا ينخفض عندما ينخفض سعر الدولار. صحيح أن جشع التجار وإهمال الحكومة لواجبها في ضبط الأسواق والتحكم في الأسعار يبقي أحد الأسباب الرئيسية لهذه الظاهرة المستغربة. ولكن حتي لا نظلم تجار العملة, فإن سعر الصرف الوهمي سبب أصيل, فعندما يعلن البنك المركزي عن انخفاض سعر الدولار ولا توفر البنوك السيولة الدولارية, يبقي سعر الدولار تحت رحمة محال الصرافة والسوق السوداء وقد يرتفع بينما السعر الوهمي المعلن ينخفض. فليوفر السيد محافظ البنك المركزي السيولة الدولارية لعملاء المصارف أو يعترف بأن سوق الصرافة هو الذي يتحكم بسعر صرف الدولار ويريح نفسه من إعلان السعر الوهمي ويريحنا. وبهذه المناسبة, فمن الواجب إزجاء الشكر والتقدير إلي وزير التموين د. محمد ابو شادي علي وضع التسعيرة الاسترشادية للخضر والفاكهة ونتعشم أن تمتد لجميع السلع الأساسية لمعيشة عامة الناس وان تتحول إلي تسعيرة جبرية إن لم يلتزم التجار بجدية باحترام التسعيرة الاسترشادية, وهو مايبدو قد حدث حتي الآن. إن المولولين من فرض التسعيرة ولو كانت استرشادية باعتبارها عودة إلي ممارسات تحد من الحرية الاقتصادية جهلة ومراءون يضعون جشع التجار فوق مصلحة الوطن والمواطن. فجميع البلدان العتيدة في ضمان الحريات تفرض التسعيرة الجبرية في أي ظروف استثنائية, مثل الحرب او الكوارث التي تستدعي فرض حالة الطوارئ, بقصد حماية مصالح عامة الناس من جشع التجار, فالنفس البشرية لأمارة بالسوء. وفي المجال الذي فرض فيه وزير التموين التسعيرة الاسترشادية, ربما لا يعلم الجميع ان هامش الربح في تسويق الخضراوات والفاكهة والذي يذهب جله للتجار وليس للمنتجين لا يقل عن مئة في المئة من سعر المنتج, وقد يتعدي ثلاثة او أربعة اضعاف, في كل حلقة من الحلقات الوسيطة بين المنتج والمستهلك. المنتج مثلا قد يبيع كيلوجرام المانجو بجنيه ونصف الجنيه ليدفع فيه المستهلك عشرة او خمسة عشر جنيها حسب من أين يشتريه, فمحال السوبر ماركت مثلا تقتضي هامش ربح أضخم. والدليل الدامغ علي جشع التجار هو الفارق الضخم بين أسعار بسطاء البائعين واسعار السوبر ماركت الفاخرة. وهؤلاء الباعة البسطاء يبيعون باسعار اقل لأنهم إما منتجون يبيعون للمستهلك مباشرة أو علي الأقل يستبعدون بعض حلقات الاتجار الوسيطة بين المنتج والمستهلك بالإضافة إلي قلة تكاليفهم الثابتة. ولأذكر مثالا, سنحت لي فرصة لمقابلة سيدة فلاحة رائعة تبيع الجبن القريش علي رصيف طريق, وعرفت أنها صنعته بنفسها فجر اليوم نفسه, وأدهشني انها طلبت سعرا يوازي نصف ماأدفع لبقال الحي الذي اتعامل معه يوميا, في سلعة أجود. والمؤلم ان هؤلاء البائعين الغلابة الذين يوفرون سلعا ارخص وغالبا أجود لا يلاقون من الحكومة إلا العنت والعذاب من خلال المطاردة والتكدير بدلا من تنظيمهم وتقديم الخدمات اللازمة لهم كمواطنين يسعون وراء الرزق بطرق شريفة ومفيدة, بينما يحظي الأكثر جشعا بالاحترام والتيسير, وأحيانا التشجيع. إذ في العقلية البيروقراطية المتخلفة يمثل هؤلاء الباعة المفترشون الطرق وصمة قبح وعار. بينما في جميع المدن المتحضرة تشكل أسواق المنتجين او اسواق الشوارع هذه, متي ما نظمت واتيحت لها المرافق الصحية معلما جذابا ومفيدا. والحق ان المسألة تتعدي نطاق الأخلاق إلي الخصائص الموضوعية للأسواق في علم الاقتصاد. فالأسواق الطليقة تماما أو المنفلتة, كما هو الحال في مصر, تخضع دائما لظاهرة فشل السوق. بمعني أن أي سوق منفلت ينتهي أبدا بمحاباة الأغنياء والاقوياء, وبعقاب الضعفاء والفقراء في السوق, مسببا الظلم الاجتماعي المقيت. وهذه هي اخطر سوءات الرأسمالية المنفلتة وأحط اعراضها الاحتكار الذي يضع المستهلكين تحت رحمة من يبيع السلعة أو الخدمة. ولذلك فإن أحد شروط نجاح النظم الرأسمالية في جميع الدول المتقدمة هو ضبط الأسواق ومكافحة الأسعار الاستغلالية وضرب الاحتكارات. ولذلك تعتبر مكافحة الاحتكار وضبط الأسواق من أهم وظائف الدولة حتي في الدول الرأسمالية. ومنذ أعوام قليلة او شكت الإدارة الأمريكية علي تكسير اكبر شركة في العالم, شركة ميكروسوفت العملاقة, عندما قامت عليها شبهة احتكار في سوق برمجيات الحواسيب الشخصية. المشكلة أن المجموعة الاقتصادية في الوزارة المؤقتة الراهنة تنتمي علي ما يبدو, كما المولولين من التسعيرة الاسترشادية, إلي المدرسة ذاتها في الرأسمالية المنفلتة التي أسسها نظام الحكم التسلطي الفاسد الذي قامت الثورة الشعبية العظيمة لإسقاطه ولم تفلح بعد, ولا تعير بالا للعدالة الاجتماعية رغم انها واحدة من أهم غايات الثورة. وليس الغرض التشهير بالتجار أو الإضرار بمصالحهم وإنما وضع ميزان للعدل في الأسواق. ولكن بكل تأكيد يستلزم العدل عقاب من يغالون في الأسعار طلبا لهامش ربح استغلالي. ولعل وزارة التموين بالتعاون مع مركز ابحاث رصين يجرون لنا دراسة نزيهة عن هامش الربح في سلسلة تداول السلع الأساسية بين المنتج والمستهلك النهائي. ووقتها يصبح لدينا اساس متين لفرض التسعيرة بما يحقق مصالح جميع الأطراف بالعدل, بما يضمن للمنتجين والتجار هامش ربح معقول, ويحمي المستهلك من الاحتراق بلهيب الأسعار بسبب هوامش الربح المبالغ فيها في الحلقات الوسيطة بين المنتج والمستهلك. لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى