أكتوبر هذا العام يحمل الذكري الأربعين. ياااااااااه!.. أربعون عاما مضت.. قلت لبعض قدامي رفاق السلاح الذين توج الشعر الأبيض رءوسهم: لقد أقترب كثيرا موعد لقائنا مع الأحبة, مع مصطفي عبد السلام ومحمود عبد الباري وهاني ورضوان و... كل هذه النفوس الذكية التي واريناها أثناء حربنا المظفرة ضد إسرائيل في أكتوبر...1973. كنا أطفالا في خط الجبهة, صرنا بعد مرور الوقت شيوخا, تركنا الدمية بين يدينا في المنزل, كي نحمل بدلا منها الرشاش, صرنا لا نتقابل إلا في صفحات الموتي, والآلة دارت فاغتالت كل اللحظات.. أخذتنا الحياة في دورتها المحمومة, امتصت ما تبقي من رحيقنا في الصراع الأزلي من أجل لقمة العيش, ومع ذلك كنا دائما عندما يأتي ميعاد الذكري, أينما كنا وكيفما كنا نسترجع ذلك الشريط الذهبي من عمرنا, ونتذكر الأحبة وكأنهم يعيشون بيننا, بل هم يعيشون معنا منذ أن اندمجوا برمال سيناء في عناق أبدي, وعز من قائل: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.. كنا نتحاور معهم, نستعيد حواراتنا في الملاجئ المحفورة تحت الأرض, والنكات التي كنا نتبادلها بعد انتهاء الغارة, وأسرار القلوب, والعذاري اللائي كن ينتظرننا في كل حدائق مصر كي نحتفل معهن بالنصر والزفاف معا... نعم.. كم واحد من المليون شاب الذين اصطفوا علي حافة القناة في تلك الأيام الدافقة كان قد أجل لحظة الفرح إلي ما بعد النصر, وكم واحد منهم تم زفافه إلي حفرة في أرض سيناء وقد ترصع ثيابه بزهور الدم... أربعون عاما.. ها قد صرنا شيوخا يا رفاق, هل تحكون لأولادكم وأحفادكم حكايتنا؟.. وهل يصدقون ما يحكي ويكذبون ما يرونه علي شاشات التليفزيون؟.. هل أصبحنا بالفعل عواجيز الفرح, وتحولت أحاديثنا إلي مرارة الشيوخ التي تعكس الفواصل بين الأجيال, هل كان ذلك الحدث الذي عشناه قبل أربعين عاما وهما من صنع خيالنا؟.. هل ما نقوله عنه لا يتجاوز تخريف وهذيان الشيوخ؟.. هل هو مجرد معجزة لا تنتمي إلي جلدنا ودمنا وإنما حاربت عنا الملائكة وكنا في الصفوف الخلفية نتفرج؟.. هل كنا مجرد قطع للشطرنج نتحرك بقرار ونتوقف بقرار من صاحب القرار؟... وإذا كان ما فعلناه وحكيناه ونحكيه وسنحكيه عن تلك الحرب صحيحا, فكيف نفسر ما يدور الآن في سيناء؟.. أليست تلك الأجيال من صلبنا ودمنا ورحيق أحلامنا؟.. ألم يسمعوا ويقرأوا عن تلك الكوكبة الذهبية التي عشقت الأرض إلي حد التوحد معها.. ألم يستنشقوا نسيما فيه ذرات عطرة من جسد عبد الباري؟, ألم يشعروا حين يعبرون القناة كي يتمتعوا بشرم الشيخ ورأس محمد والعريش, ألم يشعروا بذلك الدفء الذي صنعته أكتاف مليون شاب مصري تزاحمت في عبور القناة؟.. إن ميسرة الطفلة التي أعشق فيها تمردها علي نصائحي وأوامري, تدرك بغريزتها كيف تفرق بين الصديق و العدو, فكيف غلقت عقول النابهين من أجيال الشباب؟.. من المسئول عن ري أرضنا بسائل النسيان ونثر فيها بذور الكراهية, من المسئول عن طمس تلك الأيام المتلألئة في حياة أمتنا؟.. أين تبخرت روح أكتوبر التي كثيرا ما تحدثنا عنها وتغنينا بها, ومازلنا نتحدث ونتغني بها؟, من المسئول عن قرار التقهقر؟... ربما أرهقتنا حروب متتالية أكلت يابسنا وأخضرنا وزهرة شبابنا.. ربما ارتكنا إلي دعة العيش ورفاهته وتنعمت أصابعنا فصارت لا تطيق جذب زناد أو نزع فتيل قنبلة يدوية أو بناء مصنع أو فلاحة أرض.. ربما ضعف إيماننا وتخاذلت عزيمتنا... ولكن كل ذلك ليس صحيحا لأن المعركة لم تنته بوقف إطلاق النار قبل أربعين عاما, الصحيح أن المعركة الحقيقية بدأت في هذا التاريخ, لقد كان ذلك هو شعورنا آنذاك, وهو اليقين الآن... والمشكلة أن أكثر شهود هذه الملحمة الخالدة قد واراهم التراب, والباقي منهم قد صاروا شيوخا يتأهبون للانزواء والاختفاء من مشهد الحياة النابض.. ولذلك أكتب.. إذ لا بد لأحد أن يحكي الحكاية, حتي لا تختفي مثلما اختفت قري ومدن فلسطين القديمة, كما كان لا بد لأحد أن يحمل تلك الربابة كي تستمر السيرة الهلالية معنا حتي اليوم, ولعل الكلمة تستطيع إيصال ما عجزت الطلقة عن إيصاله, ولعل ميسرة العنيدة تصدق أن أباها ورفاقه كانوا أطفالا في العشرين حين فجروا المفاجأة, بل كانوا هم المفاجأة, كانوا صفوفا متتالية تزحف بلا توقف من غرب القناة إلي شرقها, كطوابير نمل منتظم يحملون كسرة حلم هائلة بحجم أمة وتاريخ, كلما تهاوي منهم فرد أزاحوه جانبا وواصلوا الزحف, وخلفهم أمهات وزوجات يأكل القلق قلوبهن, وفتيات فاتنات ينتظرن فارسهن المنتصر, أمة كاملة أزاحت رغام العار عن جبهتها وهتفت خلف صفوفهم: الله أكبر... أربعون عاما يا رفاق, ومازال مشهد الأسري الإسرائيليين وهم يبكون هلعا علي شاطئ القناة أمام عيني, وخاصة ذلك الجندي الذي زحف كي يقبل حذاء جرجس ويرجوه بالعربية المكسرة أن يبقي علي حياته.. مشهد العلم ذو النجمة السداسية الزرقاء وهو يتهاوي من فوق النقطة الحصينة تحت أحذية عبد الموجود ومصطفي الحادي اللذين تركا الفأس في الحقل وحملا البندقية.. أريد أن أمتلك مقدرة أسطورية كي أتمكن من عرض تلك المشاهد كي تمحو من عقول الناس بعض المشاهد التي يرونها الآن, لقد انتصرنا وانهزموا, وأنتم أيضا تمتلكون القدرة علي النصر.. والنصر كما يقال صبر ساعة.. لا أتصور أن أربعين عاما في عمر الأمم زمن كبير, وإن كنا كأفراد نشيخ ونموت خلال زمن كهذا, فإن الأمم الحية لا تشيخ ولا تموت, والشباب في كل زمن هم ذخيرة الأمم ومحط أملها وموئل عزها.. فكوني يا ميسرة عصاي التي أتوكأ عليها, ويدي التي أبطش بها, كوني عيني التي أخترق بها الحجب كي أري جيلك والأجيال التالية يحقق ألف عبور وعبور, يزيل تلك السحابة الكئيبة من سمائنا, يصنع المجد الذي لا نستحق غيره.. فنحن مهما حدث خير أمة أخرجت للناس.. ولا نامت أعين الجبناء... لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق