منذ ما يزيد علي ألف عام هي عمر قلعة العلوم الإسلامية في العالم الإسلامي' الأزهر الشريف' وهو يتبني أدوارا فاعلة, بل أدوار البطولة المطلقة في الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية علي مر تاريخه, سواء في المراحل المزدهرة أم التي شهدت تضييقا علي دوره. ولم تتوقف مهام شيوخه المتواترين منذ عام1690 وحتي شيخه الراحل مؤخرا الدكتور محمد سيد طنطاوي علي نشر الدعوة الإسلامية وتدريس العلوم الإسلامية ورعاية الطلاب الوافدين من مختلف دول العالم الذين جاءوا ينهلون من معين الأزهر.. لم تتوقف المهام عند هذا الحد, وكفي.. بل إن الأزهر الشريف حمل مؤنة إبلاغ خطاب إلهي إلي الأمة الإسلامية, فكان خير رسول لخير رسالة. وكانت الرسالة الإلهية أو التقرير الإلهي' وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس..',أي أن الأمة هي أمة الوسط والاعتدال التي ستشهد علي الناس,في الدنيا والآخرة.ومنذ عقود عديدة, لم تستطع أي مؤسسة القيام أو إبلاغ الرسالة' الوسطية',التي تعني في أبسط صورها التوسط بين شيئين.. بين الإفراط والتفريط, بين اليمين واليسار, والمرادفة للعدل والاعتدال, كما استطاع الأزهر. ونجح مجمع البحوث الاسلامية التابع للأزهر في تجسيد المعني العلمي والديني للوسطية, التي يراها المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة مرادفا للجمع بين عناصر الحق والعدل من الأطراف المتقابلة لتكون موقفا جديدا مغايرا للطرفين المختلفين ولكن مغايرة ليست تامة,ولذلك فإن الوسطية الإسلامية تعني ضرورة وضوح الرؤية باعتبار ذلك خصيصة مهمة من خصائص الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي,وهي منظار للرؤية لا يمكن أن نبصر حقيقة الإسلام بدونه,وكأنها العدسة اللامعة للنظام الإسلامي. ولذلك طبق مجمع البحوث الاسلامية( أكبر مرجعية فقهية في العالم الإسلامي) مفهوم الوسطية في آرائه الشرعية الصادرة عنه,فجمع بين الأصول الشرعية الثابتة والواقع المتغير وبين فقه الأحكام وفقه الواقع.. وعالج المشكلات باعتدال وحكمة,بدءا من تأكيد جواز إخراج الزكاة بالنقود بدلا من الحبوب, مرورا بقضية الختان وتعيين المرأة قاضية وزراعة الأعضاء,وغيرها من الأمثلة. وتمحورت الدراسة في المعاهد الأزهرية التي تشمل المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية, وكذا المرحلة الجامعية حول تدعيم فكر' الوسطية', فشملت الدراسة جميع المذاهب الإسلامية, التي يري بعض المتخصصين أنها تتناقض مع هذا الاتجاه,وأنه يجب أن تسير في ركب المذهب الواحد, لكن الأزهر أفرز متخصصين من جميع المذاهب لا يحملون فكر التعصب.. وهذا كان التحدي ولا يزال الذي يواجه أي مؤسسة دينية تعليمية.. نفس النهج انسحب علي الجامعة الأزهرية. ومنذ4 سنوات تقريبا دشنت الجامعة هيئة مستقلة جديدة باسم' الرابطة العالمية لخريجي الأزهر' من ضمن أهدافها نشر فكر'الوسطية' في العالم بمفهوم أشمل وتأكيد نبذ كل أشكال التطرف والتشدد الديني والفكري, من خلال لم شمل خريجي الأزهر من مختلف أنحاء العالم, وهم كثر,والتواصل معهم من خلال المؤتمرات والدورات التدريبية, والحرص علي نشر هذا الفكر,وبدأت الرابطة فعلا منذ6 أشهر تقريبا في عقد دورات تدريبية تقدم لها نحو400 من أئمة العراق, وتتوالي الدورات..وتعقد الرابطة مؤتمرها السنوي بعد شهرين عن' الوسطية' ليشارك فيه علماء من مختلف أنحاء العالم. والرعيل الأول لشيوخ الأزهر كان يمثل بحق فكر'الوسطية' ويدعمونه بقوة,من خلال حرصهم في آرائهم علي التمسك بالأصول الشرعية مع مراعاة الواقع الحالي ومستجدات العصر,أما الشيخ الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر السابق فكانت جميع لقاءاته ومقابلاته مع المسئولين من مختلف النحل والملل تنطق بهذا الفكر وفي جميع الأزمات, سواء الداخلية المتعلقة بالفتن الطائفية التي تنشب بين الحين والآخر, أو الخارجية التي تناقش قضايا المسلمين في العالم, وربما كان آخرها أزمة حظربناء المآذن في سويسرا التي عالجها بحكمة واعتدال دون أن يؤلب الرأي العام الإسلامي ودون الإخلال بالمقومات الإسلامية.. فكان الأزهر.. بحق الراعي الأول للوسطية والاعتدال في العالم وسيظل. [email protected]