لم أكن أتخيل أن هذا المسجد الصغير المواجه لدار الأوبرا المصرية وعلي بعد5 أمتار فقط. سيخرج منه جثمان الراحل سمير زكي نائب رئيس الأوبرا, وكذلك د. عبدالمنعم كامل رئيس الأوبرا السابق, ولتخرج منه هذا الأسبوع د. رتيبة الحفني أول رئيس لدار الأوبرا المصرية بعد عطاء طويل قبل وبعد الأوبرا من خلال هذا المشوار العظيم الذي ملأت به الساحة الموسيقية. عرفت الفنانة شديدة الإخلاص لفنها منذ دار الأوبرا القديمة التي احترقت. كانت وقتها مغنية الأوبرا السوبرانو التي شاركت في بعض مواسم هذه الدار القديمة, ولعل أشهر أعمالها في هذا الوقت كان أوبريت الأرملة الطروب التي قامت ببطولتها. لم تكن مغنية أوبرا سوبرانو فقط, حيث قامت لأكثر من مرة ببطولة أوبرا عايدة, ولكنها كانت أيضا عميدا لمعهد الموسيقي العربية, ووقتها كان أن كونت فرقة أم كلثوم للموسيقي العربية التي تضم أشهر مطربي مصر حاليا. لم تكتف بهذا, بل كان أن قدمت هذه الفرقة من خلال تراثنا الموسيقي والغنائي الكلاسيكي العريق في معظم بلاد العالم في جولات كان العرب قبل المصريين يتهافتون علي مشاهدة هذه الفرقة التي كان يقودها المايسترو حسين جنيد. أيضا لم تكتف بهذا بل كانت أول فنانة تقنع الموسيقار العظيم عبدالوهاب بحضور حفلات هذه الفرقة في مسرح سيد درويش بالهرم ليقف علي خشبة المسرح لا ليغني ولكن ليتحدث إلي جموع الحاضرين من المتفرجين والفنانين, وكان هذا في مناسبة عيد ميلاده. أذكر للراحلة الفنانة العظيمة واسعة وغزيرة الإنتاج الكثير والكثير فهي أول من فكرت في إقامة مهرجان للموسيقي العربية في القاهرة بدار الأوبرا ليتعرف المتلقي المصري من خلالها علي الكثيرين من مشاهير مطربي العالم العربي.. لطفي بوشناق من تونس, وزيادي من المغرب, وغيرهما كثيرون. ولم تكتف بهذا المهرجان لملتقي كبار مشاهير مطربي العالم العربي, ولكن كانت كل دورة مخصصة لتكريم رواد موسيقانا المصرية, حيث تعرض من خلال دراما موسيقية حياتهم وبداياتهم في عروض بالغة القيمة. من خلالها كان قدوم عبقري العود نصير شمة ومن خلالها كان قد جاء المايسترو سليم سحاب, ومن خلالها كانت الموسيقي العربية الأصيلة في واحد من أهم فتراتها, حيث التسابق علي حجز تذاكر مهرجان الموسيقي العربية. بالطبع عرفتها عن قرب وامتدت العلاقة طيلة مشوارها الفني لأستشعر بأن حياتها كما لو كانت قد وهبتها للموسيقي الجادة.. ماذا أقول عنها أم الموسيقي أو عبقرية الموسيقي سواء الغربية أو الشرقية.. أم الموسيقيين.. وهنا لابد من الإشادة بالدكتورة إيناس عبدالدايم رئيسة الأوبرا حاليا التي قامت بنفسها بالاتصال بكل الفنانين للمشاركة في الجنازة, ولتعد منذ الآن لاحتفال كبير تقيمه تكريما لهذه الفنانة وتكريما لعطائها الممتد لأكثر من نصف قرن. كنت شاهدة علي فترة من أصعب الفترات في بداية الأوبرا عندما كان معظم وقتها في عمل مكتبي لتواصل الليل بالنهار, وبعد نهاية كل حفل كانت تحرص علي توديع رواد الأوبرا لترتدي; كاب سواريه مطرزا تغطي به ملابس المكتب بالغة البساطة.