في عام2011 اندفعت موجات ما يطلق عليه الربيع العربي لتغرق الشرق الأوسط وأنظمته القمعية, ومنذ هذا التاريخ والعالم يعيش تسونامي هذا الربيع حيث باتت أنظمته في مواجهة اختبارات قاسية من شعوبها بعد أن رأت كيف نجحت الشعوب العربية التي ظلت ساكنة مدة طويلة في إسقاط أنظمة ديكتاتورية عتيدة وإن لم تحقق التغيير الديمقراطي بعد- وفي تكرار لسيناريو هذا الربيع خرجت مظاهرات تاريخية في كل من البرازيل وتركيا; كان رفع أسعار تذاكر النقل شرارة بدء الاحتجاجات في بلاد السامبا, بينما كان مشروع ميدان' تقسيم' السبب وراء خروج الأتراك للتظاهر مطالبين باستقالة نجم الربيع العربي- رجب طيب أردوغان. وهكذا انتقل تسونامي الاحتجاجات من حرارة السامبا إلي الأجواء العثمانية-الأتاتوركية, اختلفت في المكان ولون وجنس المحتجين ولكنها اتفقت علي الأهداف التي تظاهرت من أجلها والتي بدورها تشابهت في مضمونها مع الربيع العربي, فخرجت تبحث عن' عيش,حرية,عدالة اجتماعية' وجاء الخبز أولا لأن من لا يستطع أن يكفل قوت يومه لا يمكنه مجرد التفكير في الحرية وإن ظل يحلم بها- بعد أن تحول إلي أسير نظام لم يقم بواجبه تجاه شعبه. زأنا هنا, لأنني يوميا استقل وسائل النقل العام, لذا أنا أعرف ما الذي يعني دفع المال دون الحصول علي خدمات نوعية وما الذي يعنيه التنقل في الشوارع دون الشعور بالأمن. هذه كانت فقط القطرة التي أفاضت الكأس ودفعتنا إلي الخروج والاحتجاج..لقد حان وقت الاحتجاج. بهذه الكلمات تحدثت ماريا عن أسباب مشاركتها في الاحتجاجات التي القت بظلالها علي الاحتفالات التي شهدتها البرازيل بمناسبة يوم الاستقلال, لتطغي أصوات الرصاص المطاطي أصوات الغناء وتغيب ألوان الألعاب النارية وسط الدخان الصادر عن القنابل المسيلة للدموع التي استخدمتها الشرطة البرازيلية خلال الاشتباكات العنيفة التي اندلعت بينها والمتظاهرين الذين خرجوا في الشوارع احتجاجا علي سوء الخدمات العامة مثل التعليم والصحة, مطالبين بوضع حد لما اعتبروه فسادا سياسيا تشهده البلاد. والواقع أن القصة في البرازيل ليست قصة كأس العالم الذي ستستضيفه بلاد السامبا العام المقبل والتكاليف الباهظة التي سيتكبدها الاقتصاد الصاعد خاصة وأن البرازيل تمتلك من الموارد الطبيعية والقدرات ما يمكنها من تحويل هذه الأموال المنفقة علي الكأس إلي مكاسب علي المدي القصير والبعيد أيضا.فبقراءة تاريخ السنوات العشر الماضية فحسب نجد أن البرازيل حققت معجزة اقتصادية تستحق التأمل, فبعد أن كانت دولة علي وشك الإفلاس عام2002, نجحت خلال11 عاما فقط من الاصلاح الاقتصادي في أن تغدو الآن سابع قوة اقتصادية في العالم. خلطة لولا السحرية وقدم رئيسها السابق المحبوب لولا دي سلفا تجربة اقتصادية فريدة مزج فيها بين السياسات الاشتراكية لحل مشكلة الفقر, والسياسات الليبرالية لحماية مصالح الأغنياء, وهو المزيج الذي نجح في خفض عجز الموازنة وساهم في تدفق الاستثمارات مما خلق فرص عمل جديدة, ليرتفع دخل نصف الشعب بنحو68%. ولكن بقي هناك أسئلة لم تتمكن خلطة لولا السحرية من توفير إجابات لها خاصة بعد الأزمة الاقتصادية الخانقة التي شهدها العالم بدءا من نهايات عام2008 واستمرت تلقي بظلال قاتمة علي دول كبري ذات ثوابت اقتصادية عتيدة كفرنسا وإيطاليا وبريطانيا وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة بالطبع, فالمحتجون الذين حاولوا إفساد المسيرات الاحتفالية التي شهدتها العديد من مدن البرازيل بمناسبة يوم استقلال لم يكن يحركهم بواعث شريرة في نفوسهم وإنما كان لديهم مطالبهم المشروعة. البرازيل ليست كرة قدم فقط وبالطبع كان الشباب الأكثر بروزا في هذه الأحداث النادرة في بلاد السامبا منذ عقود, إلا أن الحركة الاحتجاجية تمكنت من جذب مختلف الشرائح الاجتماعية التي ثارت للمطالبة بحقوقها المالية وأقل حقوق العيش في أي دولة. وفي محاولة لشرح هذه الأسباب تقول دانييل زاجو مديرة في مؤسسة متخصصة في الاتصال ماذا عن بلدنا وماذا عن شعبنا؟ وعن قطاع التربية وعن الصحة؟ إلي أين ستؤول الأمور؟ لقد تعبنا.. كفانا معاناة.. كفي. أما ديانا فيناشيو طالبة الحقوق فقالت أنا هنا لاظهر أن البرازيل لا تتمحور فقط علي كرة القدم والحفلات لدينا قضايا اخري تثير قلقنا مثل نقص الاستثمارات في أمور تهمنا كثيرا. وقال الشاب العشريني ديو كويلهو الذي شارك في مسيرة وهو يحمل الزهور لقد جئت لانني أريد أن تستيقظ البرازيل لم آت فقط للاحتجاج علي ارتفاع أجور الحافلات, ولكن كذلك بسبب النواقص في التعليم والصحة. لقد جاءت مظاهرات السامبا بعد أن أعلنت البرازيل أن اقتصادها سجل نموا ضعيفا(06% في الربع الاول) فيما وصلت نسبة التضخم إلي65% في مايو الماضي. وبالطبع أضرت هذه البيانات الاقتصادية الضعيفة بشعبية الرئيسة خاصة بين الشباب والأغنياء. أحفاد أتاتورك وأحلام أردوغان ومن بلاد السامبا وكرة القدم, انتقلت موجات الاحتجاج الشعبي علي الحكومات إلي بلاد الباب العالي, إلي تركيا التي تري في نفسها الوريث الشرعي للخلافة العثمانية, ولكنها في الوقت نفسه تتمسك بديمقراطيتها وجمهوريتها التي أسسها وثبت أركانها مصطفي كمال أتاتورك; وهكذا نجد تركيا دولة واحدة تحتضن الكثير من الهويات المختلفة, فأهل اسطنبول يختلفون في عاداتهم وطبائعهم عن أهل أنقرة, أو أزمير أو ديار بكر. فلكل مدينة طبيعتها الجغرافية الخاصة وتاريخيها الذي أكسبها شخصية وهوية يميزانها, ولكن يتفق الأتراك علي صفة أساسية وهي أنهم فخورون بتاريخهم وتنوعهم واختلافهم. وهنا يأتي السؤال لماذا ثار هذا الشعب المختلف والمنسجم في الوقت نفسه علي رئيس وزرائه رجب طيب أردوغان الذي تمكن مع حزبه العدالة والتنمية من تحقيق تقدم اقتصادي حقيقي للأتراك ورفع أسهم الحفيدة العثمانية لتصبح منافسا قويا في السوق الأوروبية والعالمية أيضا حيث بني جسور تجارية قوية مع العديد من الجيران الصديقة كما عزز قوة الأحفاد بموقف متميز في حلف شمال الأطلنطي الناتو, ثم أصبح سوبر ستار الربيع العربي بمواقفه الداعمة لثورات التغيير في تونس ومصر وليبيا والآن سوريا. ما الذي جعل الأتراك يثورون علي أردوغان الذي رأي بعضهم فيه الكثير من الكاريزما الشعبية التي امتلكها مؤسس دولتهم الحديثة ومعشوقهم أتاتورك وذلك بفضل الإنجازات الإصلاحية التي تمكن أردوغان من تحقيقها. زس لقد ثار الأتراك لأنهم خشو علي دولتهم وإنجازاتها الاقتصادية من استبدادية الحكم العثماني, بعد أن شاهدوا كيف أن رئيس الوزراء أردوغان استغل شعبيته التي نالها عقب ثورات الربيع العربي في محاولة لتغيير الهوية التركية, ثار الأتراك حتي يحموا بلادهم من حلم أردوغان في استعادة الخلافة العثمانية خاصة وهم يراقبون دعمهم لنظام جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتونس وما كان من تصريحاته التي أضرت كثيرا بمصالحهم مع هذه الدول. يرجع تاريخ ميدان تقسيم الذي كان قلب الصراع بين المتظاهرون والشرطة خلال الأشهر الماضية إلي عام1928 وكان تأسيسه للاحتفال بإقامة الجمهورية التركية, ومنذ ذلك التاريخ بات هذا الميدان رمزا للهوية التركية التي حدد ملامحها أتاتورك, وحفاظا علي هذه الهوية اشتعلت المظاهرات إثر قرار السلطات بإقامة مول تجاري في ميدانهم الجميل, وماتلاها من قيود فرضتها الحكومة علي المشروبات الكحولية ليتردد السؤال بقوة هل تسعي تركيا لاستعادة عرش الخلافة العثمانية ولكن في ثوب حديث أوروبي الطراز؟ إن الأيام الأولي لأردوغان في السلطة تميزت باتباعه لسياسات اقتصادية قوية وسعيه نحو تحقيق الإصلاح السياسي وتوفير مزيد من الحريات السياسية والاجتماعية. إلا أن هذه الشعبية التي اكتسبها أردوغان تراجعت منذ إعادة انتخابه في عام2011 مما زاد من قوة مناهضة تيار المعارضة لسياساته وخصوصا في خضم الأزمة السورية والصراع مع الفصائل الكردية. ووصل السخط الشعبي إلي ذروته بسبب العنف الذي لجأت إليه الشرطة لتفريق معتصمي ميدان تقسيم حيث استخدمت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه, ومع سقوط أول قتيل لهذه الاشتباكات انتقلت المظاهرات إلي مدن أخري وصولا للعاصمة التركية أنقرة. الاقتصاد ودرس العثمانيين ز الغرور والأنانية, ويعاني من متلازمة نابليون, ويري نفسه سلطانا, فيجب أن يتوقف عن ذلك كله, ويعرف أنه فقط مجرد رئيس وزراء. بهذه الكلمات تحدث أحد معتصمي ميدان تقسيم ردا علي تعامل الشرطة مع المتظاهرين. الواقع أن لا أحد ينكر ما قام به حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان, ففي عام2011 كانت تركيا أعلي الدول الأوروبية نموا اقتصاديا بمعدل8.5%, وفي عهده انخفض معدل التضخم من57% ما بين عامي1995 و2004 إلي8.9% في عام2012, وزادت الاستثمارات الأجنبية من ما يقارب2 مليار دولار عام2004 إلي ما يقارب16 مليون دولار في عام.2011 ولكن السؤال في تركيا لم يكن يتعلق بالاقتصاد هذه المرة وإنما بالهوية الجمهورية والديمقراطية ورد الفعل العنيف الذي لجأ إليه أردوغان سعيا لتحقيق حلم الخلافة العثمانية. فكل ما كان يريده المتظاهرون كان إيجاد ديمقراطية حقيقية في تركيا. فكانت سياسات مشكلة الديكتاتورية من اعتقال للصحفيين وإغلاق قنوات تلفزيونية والتعتيم علي بعض الأحداث التي جرت علي الحدود مع سوريا, جميعها أسبابا جعلت المتظاهرين يتذكرون صفات السلاطين العثمانيين في مركزية القرار حين كانت القرارات لا تصدر إلا من الباب العالي, ولا أحد له حق الاعتراض علي رغبات السلطان وأوامره. ورغم أنه يحلم باستعادة حضارتهم أو خلافتهم العثمانية ويجعل من تركيا قلبا لهذه الخلافة, فإن أردوغان فشل في قراءة الدروس التي قدمها التاريخ عن الخلافة العثمانية وأسباب سقوطها, بل وأخفق أيضا في قراءة دروس التاريخ الحديث التي قدمها الربيع العربي من أنه لا قوة تستطيع ان توقف حركة الشعوب حين تثور, فبدلا من أن ينصت لمطالب المتظاهرين, واصل أردوغان تمسكه بسياسة حالة الإنكار التي تعامل بها مع المظاهرات واصفا المحتجين بأنهم مخربون, بل وتحدي إرادة شعبة بقوله إنه سيهدم مركز أتاتورك الثقافي في ميدان تقسيم, ولن يذهب ليستأذن المعارضة ومن معها من اللصوص.