السلطات الإسرائيلية تؤكد مقتل أحد الرهائن في غزة    "الدفاع التايوانية" تعلن رصد 26 طائرة و5 سفن صينية في محيط الجزيرة    أوستن: لا مؤشرات على نية حماس مهاجمة القوات الأمريكية في غزة    انتهاء أزمة الشيبي والشحات؟ رئيس اتحاد الكرة يرد    أهداف برشلونة في الميركاتو الصيفي    نجم الأهلي يقترب من الرحيل عن الفريق | لهذا السبب    اليونسكو تمنح الصحفيين الفلسطينيين جائزة حرية الصحافة    رسالة جديدة من هاني الناظر إلى ابنه في المنام.. ما هي؟    اعرف طريقة الاستعلام عن معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    20 لاعبًا بقائمة الاتحاد السكندري لمواجهة بلدية المحلة اليوم في الدوري    سعر الريال السعودي اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالتزامن مع إجازة البنوك وبداية موسم الحج    10 أيام في العناية.. وفاة عروس "حادث يوم الزفاف" بكفر الشيخ    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلًا شمال رفح الفلسطينية إلى 6 شهداء    كاتبة: تعامل المصريين مع الوباء خالف الواقع.. ورواية "أولاد الناس" تنبأت به    "نلون البيض ونسمع الدنيا ربيع".. أبرز مظاهر احتفال شم النسيم 2024 في مصر    هل يجوز الظهور بدون حجاب أمام زوج الأخت كونه من المحارم؟    حكم البيع والهبة في مرض الموت؟.. الإفتاء تُجيب    تركيا تعلق جميع المعاملات التجارية مع إسرائيل    أول تعليق من أسرة الشهيد عدنان البرش: «ودعنا خير الرجال ونعيش صدمة كبرى»    بعد انفراد "فيتو"، التراجع عن قرار وقف صرف السكر الحر على البطاقات التموينية، والتموين تكشف السبب    بركات ينتقد تصرفات لاعب الإسماعيلي والبنك الأهلي    مصطفى كامل ينشر صورا لعقد قران ابنته فرح: اللهم أنعم عليهما بالذرية الصالحة    سر جملة مستفزة أشعلت الخلاف بين صلاح وكلوب.. 15 دقيقة غضب في مباراة ليفربول    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    الإفتاء: لا يجوز تطبب غير الطبيب وتصدرِه لعلاج الناس    العثور على جثة سيدة مسنة بأرض زراعية في الفيوم    قتل.. ذبح.. تعذيب..«إبليس» يدير «الدارك ويب» وكر لأبشع الجرائم    عز يعود للارتفاع.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    انخفاض جديد مفاجئ.. أسعار الدواجن والبيض اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالبورصة والأسواق    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    برلماني: إطلاق اسم السيسي على أحد مدن سيناء رسالة تؤكد أهمية البقعة الغالية    فريدة سيف النصر توجه رسالة بعد تجاهل اسمها في اللقاءات التليفزيونية    أحكام بالسجن المشدد .. «الجنايات» تضع النهاية لتجار الأعضاء البشرية    السفير سامح أبو العينين مساعداً لوزير الخارجية للشؤون الأمريكية    الأرصاد تكشف أهم الظواهر المتوقعة على جميع أنحاء الجمهورية    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدده    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    ضم النني وعودة حمدي فتحي.. مفاجآت مدوية في خريطة صفقات الأهلي الصيفية    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    شايفنى طيار ..محمد أحمد ماهر: أبويا كان شبه هيقاطعنى عشان الفن    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    مجلس الوزراء: الأيام القادمة ستشهد مزيد من الانخفاض في الأسعار    اليوم.. الأوقاف تفتتح 19 مسجداً بالمحافظات    بشير التابعي: من المستحيل انتقال إكرامي للزمالك.. وكولر لن يغامر أمام الترجي    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    الحمار «جاك» يفوز بمسابقة الحمير بإحدى قرى الفيوم    هالة زايد مدافعة عن حسام موافي بعد مشهد تقبيل الأيادي: كفوا أيديكم عن الأستاذ الجليل    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملكة المروج

توقفت في طريقي إلي حانة التاج لأقرأ عن ملكة المروج, وفجأة وقع طرف عصا علي اللوحة التي تدعو إلي صون الحياة البرية, وسمعت من يقول: لاتصدق ماتقرأ.
واستدرت لأري صاحب الصوت, فوجدت العجوز صاحب الكلب الأبيض الضخم, وكرر عبارته:
لاتصدق ماتقرأ.
ولما سألته عما يعني.. قال:
لاتصدق ما تقوله السلطات عن حماية الحياة البرية, أين هي فئران الماء التي يتحدثون عنها؟ هل رأيت أحدها في أي يوم من الأيام؟
كلا لم يحدث: فقال بحزن:
انقرضت. أبيدت. أكلتها الثعالب.
وكبحت رغبتي في الضحك احتراما لحزنه وسألته لأنسيه ما حدث لفئران الماء:
وأين ملكة المراعي بزهورها البيضاء التي تشرح الصدر؟ يقال إنها تستخدم مع العسل في صناعة المشروبات.
هذا صحيح. لكن لاتقلق علي ملكة المراعي. ستعود في الربيع.
أنا لا أحب فئران الماء ولا الفئران من أي نوع. نشكر الثعالب علي ما فعلت بها.
والعجوز صاحب الكلب الأبيض لايعرف لمن يعطي حبه باستثناء كلبه. ورأيته يخطو ببطء متوكئا علي عكازته التي لاتكاد تحميه من خطر السقوط. وسألته:
ولماذا تضع قطع الخبز بعيدا عن شاطئ النهر؟ كأنك تريد حرمان البط منها.
أليس البط أولي من الغربان؟
فرفع عصاه نحو السماء ليشير بها إلي غراب سائح:
ولماذا تريد أن تحرم هذا من الطعام؟ الناس يدللون البط وينسون أن هناك طيورا أخري في حاجة إلي الغذاء في هذا الجو المثلج.
وبلهجة شاكية قال:
أنا أكره هذا الجو. انظر كيف تجردت الأشجار وأصبحت تشبه صفا من هياكل عظمية يقف كل منها علي ساق واحدة. لابد للغربان أن تأكل.
وانصرف. أنا أيضا لابد أن آكل. أنا غراب جائع. وقلت للجرسون الواقف خلف البار في التاج:
أريد حساء اليوم. حساء اليوم؟
حساء البازلاء.
جميل. حساء البازلاء إذن. وأريد سندوتش جراد البحر مع الجرجير. لا أعرف ما جراد البحر, لكن لنجرب. ومرحبا بالجرجير في أي وقت.
ومن حسن الحظ أن الجرسون لم يسألني عما أريد أن أشرب. علي أن أعمل حسابا للغد وما بعد الغد. يكفي الحساء والسندوتش. واخترت لنفسي أقرب مكان من المدفأة.
كانت النار غافية. وجاء الجرسون فغذاها بمزيد من الخشب, وقلب الفحم بالجاروف فتطاير الشرر وامتدت ألسنة اللهب, واستقبلت الدفء بكفي. أين يمكنني في هذا الريف البارد المترامي الأطراف أن أنعم بالدفء كما أنعم به في هذا المكان الجميل؟
التاج هو أحب مكان إلي نفسي في هذه البلاد. فيه دائما هذه النار المفتوحة التي لا يبخلون عليها بالحطب, ولديهم دائما حساء ساخن من نوع أو آخر, ولديهم دائما جرسونات يرحبون بك بابتسامة ولايعنيهم ما تدفع: أهو كثير أم قليل. يكفي أن تطلب الحساء وشريحتين من الخبز المقدد لكي تلقي الخدمة الممتازة. لولا أنهم يسألونك دائما عما تشرب. ومن حسن الحظ أن الجرسون لم يطرح علي السؤال.
إذن نجوت.
ودخل رجل وامرأة ومعهما طفلة, جلسوا مثلي بالقرب من المدفأة وبدأ مشهد يذكر بأن في الحياة أزواجا. المرأة فتاة صغيرة السن جميلة القوام بقيت صامتة وتركت الكلام للرجل, وتركت له يدها ليعبث بأناملها, لا أسمع ما يقول, فأنا لا أري إلا ظهره. وهي صامتة, تنظر إليه وتطيل النظر ثم تدير رأسها الي جانب, ثم تعود لتواجه دون أن تنطق بكلمة. هناك حوار, وإن كان الكلام من طرف واحد, أهي تتدلل عليه؟ إلي أن تدخلت الطفلة. تريد من أمها هل هي أمها؟ أن تعطيها التليفون المحمول. فقالت المرأة بشيء من الحدة:
من تريدين أن تكلمي الآن برب السماء؟
إلا أن الطفلة كانت تتأود كأنها لم يكن يعنيها أنها قطعت الحوار:
لا أريد أن أكلم أحدا. أريد أن التقط بعض الصور
وجاءت الجرسونة البدينة لتخبرني أن الشاب المسئول عن السندوتشات لم يأت اليوم بسبب سوء الأحوال الجوية. أمر مؤسف, كنت متشوقا إلي جراد البحر الذي لا أعرف عنه إلا اسمه علي قائمة الطعام وإلي الجرجير, وعلي أن أعيد التفكير فيما آكل بعد الحساء. كنت أول من دخل في الساعة الثانية عشرة ظهرا, وكانت هي التي فتحت لي الباب. وها هي تقف أمامي مبتسمة في مريلتها البيضاء, وهي تدير سلسلة مفاتيح حول سبابتها, وجاء السؤال الذي أخشاه: وماذا تشرب؟ ولكنها انصرفت عني لتلتفت إلي الطفلة وهي توجه الكاميرا نحوي. واعتدلت في مجلسي. إلا أن الطفلة قالت: تشيز, فلم أفهم ما تعنيه. تشيز بلغة أهل هذا البلد تعني الجبن فما دخل الجبن بالتصوير؟ وكررت الطفلة العبارة, ولم أفهم, والتفتت المرأة نحوي لتقول: تريد أن تقول لك ابتسم فابتسمت. وأرسلت العدسة وميضها.
لماذا وقع علي الاختيار؟ ينبغي أن نحتفل, وجاءني رد ملهم علي سؤال الجرسونة:
حساء البازلاء هو شرابي اليوم. وأريد بعده سمك موسي مع البطاطس والخضراوات, وفي النهاية إلي بقطعة من جاتوه الجبن وقهوة سوداء. تشيز
وتغير المشهد الزوجي فجأة. كانت المرأة تهم بالنهوض معتمدة علي ظهر مقعد, فلم تكن قد انتصبت بعد. ولكنها في انحنائها علي هذا النحو أظهرت ما كان خافيا, لم تكن الجاكتة السوداء القصيرة تغطي من ظهرها إلا النصف, وكان القميص الرمادي يمتد ملتصقا بجذعها إلي أن يختفي تحت البنطلون الأسود ويبرز بلونه الفاتح في مقابل السواد امتداد الجسد الشاب وليونته. كانت تحرك جذعها في وضعها ذلك. هناك حوار, هناك مايشبه الراقصة. وعادت الراقصة بعد قليل لتجلس بالقرب من رجلها ولتصبح هي الطرف الهيمان بالطرف الآخر. انظر إذن كيف تطور الحوار. هل قررت فجأة أنها تريد منه شيئا, فرأت أن تنشر بعض أسلحتها؟ ولم لا؟ لا بأس بذلك. إقبال بعد تمنع ولم لا؟ ولو أن العجوز تمعن في الاشجار لرأي أن هياكل الشجر ليست سوداء تماما. هناك الطحالب التي غطت الأغصان بالصفرة والخضرة, وهناك نباتات متسلقة دقيقة العيدان تتلوي وتلتف حول الجذوع والناضج منها مورق وذو أشواك. كأنها ديدان أو ثعابين ذات أشواك. وسوف تعود ملكة المروج في الربيع.
ومع ورقة الحساب جاءت لحظة الندم. المبلغ لا تحتمله ميزانيتي البائسة. ما كان ينبغي أن أطلب السمك, ولا الحلوي, كان يكفيني شريحتان من الخبز المقدد مع الحساء, لم يكن ذلك ليسد جوعي, ولكن دفع ثمن هذا الاحتفال يعني التضحية بوجبة أو وجبتين في الأيام المقبلة. وهناك جوعي المزمن. وهل يمكن احتمال الجوع في مثل هذه الاحوال الجوية؟ ما الذي دفعني إلي هذا التهور؟
وسرت بمحاذاة النهر. تجمد ماؤه هنا وهناك. واحتفت الابقار التي كانت ترعي في الصيف. ولم تعد الخيول تأتي إلي النهر لتمارس مرحها. ولم أعد أري من الطيور إلا الغربان والبط. فأين ذهب الأوز؟ هل يعني اختفاء الأوز أنه أقل احتمالا للبرد من البط؟ أهو مختبئ بين العيدان الكثيفة علي الضفة الاخري؟ أم أنه طار مهاجرا إلي بلاد أدفأ؟ والسيسبان الذي كان يغمس أغصانه في الماء أصبح أشعث أشيب الشعر. ولكن تقف خلف بيوت الضفة الاخري أشجار الكازوارينا هل هي كازوارينا وهي دائمة الخضرة. وسيعود الربيع. ولكن ماذا يمكن أن يأتي به الربيع؟ سوف تعود ملكة المروج ويعود الأوز, وتعود الزهور البيضاء, ويعود النحل والعسل. اليخوت التي رأيتها في الصيف تمخر النهر أصبحت مشددة إلي مراسيها لاتتحرك ويبدو أن سكانها هجروها. لم تعد أعمدة الدخان ترتفع من مدانها. والبرد قارس والاغصان تدلت منها عناقيد من بلورات الجليد. وماذا يمكن للربيع ان يأتي به لك؟ هل يمكن أن يأتي الربيع بعمل يكفيك شر الجوع؟ كيف وأنت تعمل في سوق العبيد الذين ليس لهم أوراق؟
وأين أليس ؟ من المستبعد ان أراها اليوم علي دراجتها تتوقف عند أحد المنحنيات لتسأل: أهو أنت هو أنا بالفعل. ما أجملك! وتوقفت عند المكان الذي رأيتها فيه في الصيف الماضي. لم أصدق عيني لأول وهلة. ها هي من اسكنتني في بيتها ووقتني شر البرد والجوع, وإن كنت قد آثرت الرحيل. ها هي تجلس تحت مظلة مستطيلة وأمامها مائدة تعرض عليها تماثيل صغيرة وحليا خشبية أفريقية وهندية تبيعها للراغبين من المارة. وبعد التحية والحديث عن الطقس سألت عن حالي, فقلت: في خير حال. كلام فارغ. آه لو رأت الجحر الذي أسكنه بعد أن رحلت عن بيتها. وسألتني فجأة ما إذا كنت أمانع في أن أؤدي لها خدمة. ورجتني أن أتولي عنها الحراسة والبيع ريثما تذهب إلي التاج لتأكل شيئا وتعود بسرعة. ولم تعد إلا بعد ساعتين. عادت متوردة الخدين, وفي عينيها بريق. لقد انتهزت السكيرة الفرصة وروت عطشها إلي الخمر. وأسلمتها الفلوس لأنني بعت خلال غيابها سوارين من كريات خشبية. فشكرتني, وهلا جلست ؟ فجلست بجوارها تحت المظلة لم أكن في عجلة من أمري. ورأت علي الضفة الأخري طائرا أسود, فهتفت: أنا أتشاءم عندما أري عقعاقا واحدا. وما الضرر في ذلك؟ الأفضل أن يكون هناك اثنان. فهذا يعني أنهما زوجان. واستدارت نحوي لتقول: هل تعلم أنني كنت متزوجة ؟ وجاءت قصة موت زوجها. كان من عادته أن يسهر في الطابق الأرضي حتي ساعة متأخرة من الليل قبل أن ينضم اليها في الفراش في الطابق الأعلي.
وحدث ذات ليلة أنها نامت نوما عميقا( يبدو أنني اسرفت ليلتها في الشرب), فلم تشعر به عندما اندس في الفراش بجانبها. وأحست بيده علي كتفها وسمعته يقول: أليس إنني أحتضر هل سمعته حقا أم أنها كانت تحلم؟ كان شابا سليما معافي قالت: كف عن هذا الهراء. وكرر عبارته, فلم تلق اليه بالا. ولكنها سمعته بين اليقظة والنوم يقول: ضميني إليك, فشدته إليها وهي تقول: كف عن غبائك. أغمض عينيك ونم. وأسند رأسه إلي صدرها. وساد الهدوء يبدو أنه استسلم أخيرا للنوم بعد أن شعرت بهزة خفيفة علي صدرها. إلي أن أيقظها ثقل رأسه علي صدرها. فهل تصدق أنني عندما أفقت وجدته ميتا ؟ أصدق. وقالت: منذ ذلك اليوم وأنا أتحاشي الرجال. إلا أنني كلما رأيت عقعاقا وحده شعرت... ولم تنه جملتها. جاء عدد من الناس ليتفرجوا علي بضاعتها. وعندما انصرفوا انتبهت إلي وجودي, وقالت: لا أريد أن أعطلك أكثر مما فعلت. نراك في يوم من هذه الأيام. باي باي.
باي باي أليس. لماذا صرفتني علي ذلك النحو ؟ بل لماذا قصت علي كيف مات زوجها ؟ لو أنها توقفت عن الحديث لحظة لتتذكر ما كان بيننا عملي في بيتها, حسن العشرة مثلا لأخبرتها أنني أبحث عن عمل. لم أكن لأخبرها بأمر الجحر الذي أسكنه والأجر الذي لا يكاد يسد الرمق بعد دفع إيجار الجحر. ينبغي ألا أظهر بمظهر المحتاج المتوسل, وأترك لها زمام المبادرة. ولماذا لم تسألني لماذا تركت العمل عندي؟, وقد كنت أجلس بجانبها تكاد كتفي تلامس كتفها ؟ ألم تأتمني علي بضاعتها, ما كانت تأتمنني علي بيتها ؟ لابد أنها رأت كيف ازدهرت الحديقة علي يدي. لو أنها سألت, لكانت هناك فرصة للتصالح. ولكن يبدو أن الذنب ذنبي. يبدو أنها فهمت من طريقتي في ترك العمل عندها أنني في غير حاجة إليها الذنب ذنبي.
وتوقفت عندما رأيت قطع الخبز التي تركها العجوز علي حالها لم تمس. كيف غفلت الغربان عنها ؟ كان ينبغي أن يقدمها للبط. كان سيسارع إلي القفز نحو الشاطئ ليلتهمها. وتساءلت: الخبز طازج وصالح للأكل. فلماذا لا آخذه ؟ أنا أولي به. بل.. لماذا لا أستدرج به بطة فتترك الماء وأحملها إلي مسكني ؟ عندئذ يمكنني الاحتفال بأكلها كما يحتفل سائر الناس في عيد الميلاد. إلا أن الفكرة صارت مستنكرة فور تبلورها في ذهني وتخيلي ذبح البطة والتهام لحمها. يا للعار! محال أن تفعل ذلك. ولم لا ؟ أتعتدي علي إحدي بنات النهر ؟
وجلست في مواجهة النهر. كنت أنوي السير حتي أبلغ الهويس. الهويس يثير في نفسي مشاعر لا أدري كيف أصفها. مثله مثل المزلقان والقطارات والزوارق المتجهة نحو المدينة الكبيرة, وبنات النهر, والنهر نفسه. النهر هو دوائي من اليأس. عند الهويس تسمع للماء احتداما وهديرا كأن الماء الذي يراد تحويل مجراه حصان بري يحتج علي مروضه. ولكنني متعب ويائس. لماذا تركت بيت أليس ؟ كنت أنعم فيه بالدفء والوجبات المنتظمة واتقاء شر الشرطة. وأحسب أن أحدا من الجيران لم يكن يتشكك في أمر الأجنبي الذي يقيم في بيت أليس. كانوا يعاملونني باحترام ولطف. صباح الخير كلما مررت بأحدهم. أو تعليق علي حالة الطقس. وكيف تخليت عن حديقتها؟ ازدهرت علي يدي بعد إهمال طويل: استأصلت الأعشاب الضارة وقلمت أغصان السياج التي توحشت, وقصت النجيل بانتظام مادام توقف المطر, وأقمت مصابيح شمسية لطرد الثعالب. وسيغلق القبرصي الذي أعمل عنده أبواب متجره لبضعة أيام بمناسبة عيد الميلاد ورأس السنة. يعني أن أقضي بضعة أيام دون أجر. وسيسقط وفقا لأنباء الأرصاد الجوية مزيد من الثلج. وستخلو الشوارع من المارة. وسيكون هناك احتفال أو احتفالات في التاج هذا صحيح. ولكن لمن يدفع فكيف تخليت عنها؟ كان اليوم يوم أحد. أعددت لغدائي سمكة متبلة في الفرن, وظهرت أليس علي السلم لتدعو نفسها إلي الغداء معي. ولعلها كانت المرة الأولي التي تنطق فيها باسمي. وأكلت بشهية. أقبلت علي السمكة رغم أن السكان هنا لا يأكلون سمك النهر. يصيده البعض ليعيده إلي الماء. رياضة لا جدوي منها. يقضون ساعات صابرين ينتظرون اهتزاز الشص. فإذا اهتز الشص بعد طول انتظار, أعادوا السمكة إلي الماء. يدعون أن سمك النهر له طعم الطين.
وما العيب في طعم الطين؟ نحن في بلادنا نأكل سمك النهر ونستعذبه. واستعذبته أليس. تسلل الخوف إلي نفسي ففترت شهيتي. ثم صار الخوف الغامض رعبا عندما رأيتها تأتي بمفردها علي زجاجة النبيذ الأبيض كاملة. كنت سعيدا بأنني شخص مجهول. كان هناك شعور رائع بالحرية. أنا لا أنتمي لأحد. لا أنتمي إلا لهذه الطبيعة الرائعة. فماذا يحدث بعد هذا الغداء العامر واستتباب الشعور بالألفة؟ مزيد من الوجبات المشتركة؟ صعودي إلي غرفتها أو نزولها إلي غرفتي؟ عندئذ يبدأ وضع جديد لا أعلم كيف سينتهي. ستقلب حياتي رأسا علي عقب. وأنا لا أريد أن أعرف. فلذت بالفرار. أما الآن, فعلي أن أفكر في الوجبة التي يجب حذفها في الأيام المقبلة.
لايمكنني إسقاط الإفطار. كيف أواجه النهار؟ ولا يمكنني إسقاط العشاء. لا يمكنني النوم ببطن خاو. فلم يبق إلا الغداء الوجبة المتوسطة. وعلينا أن نري هل من المحتمل مع الإفطار الخفيف والعشاء الهزيل الاستغناء عن الغداء بكوب من الشاي وملعقة من السكر؟آه لو أنني عدت إلي بيتها. وكم نصحت نفسي. لما تهورت في التاج؟ولماذا أصابك الجنون في ذلك الأحد التعيس؟ ألم أحذرك من الاطمئنان إلي الدنيا حتي لو ابتسمت لك ؟ آه لو أنها مرت. أغمض عينيك إذن محال أن تمر وكف عن هذا العبث الصبياني. أمامك أيام سوداء. ماذا يضيرك إن هي دعتك مرة ثانية إلي العمل في بيتها؟ إن هي استدرجتك إلي غرفتها ؟ ستقيك شر البرد والجوع, وستحصل لك علي
الأوراق الرسمية فتصبح إقامتك في بلدها مشروعة. وتخرج إلي النور كسائر الناس. وتصبح كسائر الناس بدلا من أن تكون كالعقعاق الوحيد. وإذا بها تمر. لم أصدق عيني. إلا أنني أراها قادمة من بعيد. تنشق عنها الأغصان المتشابكة. وجاءت تتهادي. وكانت تبتسم. وهاهي تجلس بجانبي. بهدوء كأننا علي موعد. وبهدوء أمسكت يدي وأدخلتها في قفاز من الصوف. وعلي النحو نفسه كست يدي الأخري. فتغلبت علي خجلي وقلت:أنا أبحث عن عمل. ما رأيك لو أنك أعدتني إلي عملي في بيتك؟ ولما أطرقت برأسها ولم تجب, قررت أن أحسن الصفقة في نظرها: سأكوي الملابس والبياضات, رغم أنني لا أحب هذا النوع من العمل. سأطهو طعامك إذا شئت. أنت أحببت السمكة التي طهوتها. أليس كذلك ؟ سأجعل فيها أحواضا للزهور. وسأجد علاجا لشجرة البرقوق التي تثمر بوفرة ولكن ثمارها لا تؤكل. ما رأيك؟ ولم تجب. لابد إذن من التوسل والاستجداء: أرجوك إنني أبحث عن مأوي يقيني شر البرد والجوع. خذيني إلي بيتك. وأسندت رأسي إلي كتفها, فلم تعترض. سترعاني وستستخرج لي الأوراق الرسمية.إلا أنني رأيتها بعد لحظة تنسحب بهدوء لتطير عبر النهر خافقة الجناح. قلت لنفسي: ها هي أليس قد تخلت عني. لعلها قررت الاختباء مع الأوز في البر الآخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.