في أقل من شهر عادت ميادين مصر تمتلئ بالملايين من أهلها لتقرير مستقبل الحياة السياسية في دولة غاب شعبها عن شأنها السياسي قرونا طويلة. هذا المشهد المهيب يلقن السياسيين جميعا قبل غيرهم درسا لم يعرفوه. فلم يعد المصريون كما كانوا من قبل. ولن تجدي معهم بعد اليوم اساليب الساسة التي سادت عقودا قبل الخامس والعشرين من يناير عام.2011 بات المصريون تواقين إلي وجوه جديدة وأساليب حديثة تلائم جيلا سقط خوفه ونما وعيه وعرف الطريق إلي انتزاع حقوقه. سوف ينتهي الصراع الدائر الآن في الميادين بين الأقلية والأغلبية إلي واقع جديد لن يضع بالتأكيد نهاية لآلام التحول الديمقراطي ولكنها قد تكون أخف وطأة مما وقع منذ إسقاط نظام مبارك قبل ثلاثين شهرا. فقد نزفت الثورة المصرية خلال هذه الأشهر ما يكفي من دماء القتلي والجرحي علي السواء. قليل منا يفكر فيما هو قادم. فقد سيطرت علي تفكيرنا معركة قد تستمر قليلا ولكنها تبدو محسومة بالملايين التي ملأت الميادين مرتين خلال أقل من شهر. ضباب العراك في الشوارع يحجب عنا أفق ما هو قادم قريبا. سوف نكتشف فجأة أننا مدعوون إلي صناديق الاقتراح لاختيار برلمان لانعرف كيف نختار أعضاءه ورئيس للدولة لانعرف مواصفاته. لم تستطع الثورة حتي الآن أن تفرز كوادر سياسية جديدة أو تجمعات سياسية واضحة المعالم والاتجاهات. وإذا ما استمر الحال هكذا فسوف نلجأ إلي المرشحين التقليديين نختار منهم برلمانا ثم رئيسا ثم نعود إلي الاحتجاج ضدهم بدعوي أن هذه هي الديمقراطية. علي الجانبين المدني والإسلامي لم تعد القيادات القديمة تصلح أن تتصدر مسيرة هذا الوطن وأن تتحمل عناء مواجهة مشكلاته. لم تعد تلك القيادات قادرة علي صعود تلال التنمية المجهدة. وليس ذلك من باب الإقصاء لأحد ولكن الديمقراطية الصحيحة هي آلية فرز حقيقية لمن يستطيع أن يتولي المسئولية السياسية في الدولة. وحتي تتطور آلية الفرز في المجتمع نحتاج إلي جهود كثيرة في التعليم والثقافة والإعلام. جماعة الإخوان وهي أبرز فصائل الإسلام السياسي لم تعد قادرة علي التكيف بقياداتها القديمة مع واقع سياسي مختلف تماما عن كل تجاربها السابقة في التنظيم المغلق والعمل السري أو شبه العلني. لم تستطع بقياداتها القديمة أن تصمد في الحكم عاما واحدا فأثارت ضدها الغالبية العظمي من المصريين. كررت قياداتها نفس الأخطاء القديمة فأكلت تفاحها أخضر ولم تستطع الصبر عليه قليلا. لن تكون البيعة في قادم الأيام ضمانة لترابط الجماعة وبقائها. ولن يصبح شعار الإسلام هو الحل طريقها إلي السلطة. فقد اسرفت في استخدامه قبل ثورة يناير واختفي تماما بعد صعودها إلي سدة الحكم ولم تعمل بشيء واحد منه. ولن تجدي الخرافات نفعا في السيطرة علي جموع التابعين بمقولات مثل صلاة جبريل في رابعة العدوية أو رؤي المنام التي يقدم فيها النبي صلي الله عليه وسلم محمد مرسي ليؤم النبي والمصلين معه. ولن تنفعها فتاوي فقهائها للسيطرة علي السلوك السياسي للمصريين. لقد تغير كل شيء وبقي أن يتغير فيها كل شيء أيضا. عليها أن تعترف أنها جماعة سياسية تخضع لما يخضع له اللاعبون السياسيون. عليها أن تخوض المعترك السياسي برؤية واقعية تستجيب لمشكلات الناس في حياتهم اليومية وأن تقبل مخالفيها في الرؤية والرسالة أيضا. وأن تخضع طواعية لقواعد الديمقراطية. مظاهرات الإخوان ترفع شعار الديمقراطية وصندوقها لإعادة محمد مرسي ولكن خطابها اليومي لايحمل من معاني الديمقراطية شيئا. فالخطاب تحريض دائم علي الجهاد وعلي الثبات والصبر والإيمان بنصر الله القريب وتصوير مخالفيهم علي أنهم مارقون خارجون عن الملة. وحين يتهم مرشد الجماعة الفريق السيسي بأنه ارتكب جرما اشد عند الله من تدمير الكعبة حجرا حجرا, فإنه لايتحدث عن ديمقراطية وحين تصبح الجمعة هي جمعة الفرقان فهذا وصف لايليق بأي معني للديمقراطية. ربما تحتاج جماعة الإخوان في قادم أيامها لكثير من العون والمساعدة من مختلف فصائل المجتمع حتي لاتعود وتغرد خارج سرب الحياة المدنية الحديثة التي نريدها جميعا. تحتاج جماعة الإخوان إلي قدر من التسامح السياسي ولاتحتاج إلي أي قدر من التسامح في استخدام الدين لأغراضها مرة أخري. وعلي الجميع أن يتحسس قليلا كلامه حين يتحدث عن الديمقراطية فيأتينا بسلوكيات أمم مارستها عقودا طويلة من السنين. فالثورة التي وقعت في مصر لم تضعنا في عصر الديمقراطية ولكنها وضعتنا علي بداية طريق التحول الديمقراطي مثلما هي حررتنا من أغلالنا وقيودنا ولكنها لم تجعلنا أحرارا. فالتحرر ليس هو الحرية ولكنه الطريق إليها. علي الجانب الآخر يحتاج التيار المدني إلي كثير من التغيير واكتساب ثقة المصريين. ولايدعي أي من قياداته أن المصريين خرجوا يوم30 يونيو ويوم الجمعة الماضي استجابة لأفكارهم أو دعواتهم. لقد خرجت الملايين بالمعاناة الشديدة والرغبة الحقيقة في تغيير نظام ثبت لهم فشله. وجاءت دعوة الفريق السيسي لتدفعهم خطوات علي طريق التغيير. شخصية لاتنتمي إلي تلك الأجيال القديمة من السياسيين أو العسكريين بخطابهم العتيق واساليبهم المكررة. وجه جديد اكتسب مصداقية من نوع خاص استطاعت أن تعيد القوات المسلحة إلي مكانتها الحقيقية ضامنا أعظم للديمقراطية الوليدة. وإذا كنا نري فيما حدث يوم30 يونيو وما جري الجمعة الماضية موجات ثورية حقيقية فلا بد أن تسري روح تلك الثورة فيما نتلقاه من تعليم وما نتعرض له مقروءا أو مرئيا أو مسموعا في وسائل إعلامنا وما نستمع إليه في الوعظ الديني وما نشاهده في المسرح والسينما وما يصدر عن أجهزة الدولة من قرارات وسياسات وقوانين وقبل كل شيء أن نستعيد احترام القانون وأن نري أحكامه نافذة. وأن نصبر علي أحكام القانون فلا نراها ظالمة إن أدانتنا ونراها عادلة إن هي أنصفتنا. لمزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين