في جلسة حوارية دارت في ندوة نظمها منتدي حوار الثقافات بالهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية تحت عنوان مصر التي نريدها شارك في مناقشاتها كل من الدكتور إبراهيم عيسوي الأستاذ بمعهد التخطيط والدكتورة سحر طويلة مديرة مركز الحوار الاجتماعي. التابع لمركز المعلومات واتخاذ القرار, طرحت فكرة العدالة الاجتماعية كما يراها المتحدثان بالمقارنة بما يراه الشباب الرافع للشعار منذ25 يناير.2011 وهي الرؤية التي استمرت تحاصرها وتختزلها في مجرد تضييق الفجوة بين الحدين الأقصي والأدني للأجر في مصر. وتوافق رأي المتحدثين الاثنين مع رأيي الذي ذكرته سابقا ويؤكد أن فكرة العدالة الاجتماعية لا يمكن اختزالها في مجرد تحديد الحدين الأدني والأقصي للأجور, وإنما تتسع لتشمل مساحة واسعة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تسعي, ليس لمجرد تضييق الفجوة بين الأجور فحسب, وإنما تهدف في الأساس إلي تضييق الفجوة بين مستويات المعيشة لكل البشر ولجميع المواطنين والمواطنات بغض النظر عن مواقعهم الاجتماعية أو الجغرافية أو نوعهم الاجتماعي. وأكد المتحدثان الاثنان أنهما مع تضييق الفجوة بين الأجور في مصر, ولكن أضافا أنهما مع تحقيق هذا التضييق ضمن سياسات عامة تقود بالفعل إلي العدالة الاجتماعية, وتضمن بشكل مستمر عدم وجود التفاوت العام الذي نراه الآن. وفي البداية أكد المتحدثان الاثنان أن العدالة الاجتماعية ترتبط في الأساس بوجود سياسات تنموية اجتماعية لا تسعي إلي مجرد زيادة النمو الاقتصادي الوطني قدر ما تسعي إلي تحقيق التوزيع العادل لناتج النمو العام علي كل الموطنين, ولا يعني التوزيع العادل مجرد التوزيع المادي, ولكنه يتسع إلي توفير وتوزيع خريطة كل الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية, وكذلك خدمات الإسكان, وغيرها من الخدمات التي ترفع وتحسن من مستويات معيشة المواطنين بأسلوب يتميز بالعدل المرتبط بمبدأ تكافؤ الفرص أمام كل المواطنين والمواطنات, ويتجنب سياسات التمييز والإبعاد والتهميش الاجتماعي. فالعدالة الاجتماعية تعني تمسك الدولة بكل مؤسساتها بعدد من المبادئ الأساسية وهي: وضع سياسة تنموية جديدة تضييق الفروق بين الأجور وكذلك بين الدخول, ولكن في إطار من منظومة سياسات متكاملة تمس جميع جوانب الحياة ومجالاتها, وهي منظومة أهم ما يميزها أنها تعتمد علي الذات البشرية المصرية بحيث تضمن مشاركة الجميع في تحقيقها. سياسة متكاملة للتمكين الاقتصادي تتناول الأجور والأسعار والدعم ومعالجة البطالة وتوزيع الدخول ونظم الضرائب التصاعدية وأنظمة التكافل والشراكة في الثروة, أي علاج التفاوتات الكبيرة التي نلاحظها في حياتنا اليومية في مصر. كما أنها السياسات التي تقدم للمواطن والمواطنة فرصا متساوية للتعليم والتدريب الكفيلة بمساعدتهما علي شق طريقهما العملي في الحياة باستقرار بعد التحاقهما بالعمل الملائم. كما أنها تضم سياسات تقدم لكل المواطنين الخدمات المتساوية الأساسية التي تمنحهم القدرة علي مواجهة الأزمات الصحية الملائمة وتوفر لهم المسكن الملائم. وهي السياسات التي تضم تلك المفاهيم السياسية التي توسع من مشاركة المواطنين في صياغة القرار السياسي العام الذي يمس حياتهم اليومية والقرار المحلي الذي يحسن من البيئة المحلية التي تحيطهم. بالإضافة إلي أنها السياسة التي توسع آفاق الحياة والخيارات أمام كل المواطنين والمواطنات وتحافظ علي الإمكانات والموارد الطبيعية المتاحة لكل المصريين والمصريات دون أن تهدر هذه الموارد الطبيعية التي يصعب تجديدها وورثتها أجيال اليوم لتستمر ملكا لأجيال الغد وما بعد الغد.. كالحفاظ علي الأراضي الزراعية التي تتعرض للهدر المتواصل, والتصدي لحالات التلوث البيئي, وفي البداية تلويث مياه النيل, بجانب حسن التصرف فيما يستخرج من باطن الأرض, بدءا من المياه إلي الغاز إلي المعادن إلي البترول. وقد تبدو العدالة الاجتماعية المرتبطة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية مهمة صعبة إذا ما تحدثنا عنها علي أنها ستحدث في يوم وليلة, ولكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك إذا قسمت في برامج زمنية تتضمن خطوات ثابتة يشعر البشر بنتائجها المتحققة. ويمكن أن نبسطها ونجعل منها مشروعا قوميا يلتف حوله المواطنون والمواطنات. في البداية تحتاج مثل هذه العدالة الاجتماعية إلي قرار سياسي تتبناه الدولة بكل أجهزتها العلوية والمحلية. وترعاه منظمات المجتمع المدني وتشارك فيه بقدراتها في مواقعها المحلية. تليها خطة عمل واضحة المعالم أو ما نسميه ببرامج العمل الذي يرسم الخطوات وتواليها. وفي النهاية تحتاج إلي المصارحة مع الشعب ومشاركته في البناء والمتابعة من خلال مؤسساته الشعبية والتمثيلية. ولكن وحتي إذا صدر القرار السياسي الذي يتبني هذا التوجه التنموي فلابد أن نضع أمام أعيننا أن البداية يجب أن يكون تركيزها الأول والأكبر تجاه المواقع الأكثر احتياجا في مجتمعنا. في تقديري أن هذه المواقع هي العشوائيات التي باتت تضم نحو ربع سكان مصر, ثم القرية المصرية التي استمرت تعاني منذ القدم التخلف العام التي يسكنها51% من المصريين. وفي كل الأحوال, فإن الموقعين مرتبطان مع بعضهما. فإذا تطورت القرية فسوف تحتفظ بسكانها ولا تطردهم إلي عشوائيات المراكز الحضارية الكبري, وإذا استمرت القرية علي حالها فسوف يستمر نمو العشوائيات بسبب هجرة الريفيين إلي الحضر بحثا عن دخل لأسرهم. لذا, دائما ما أري أن التنمية الاقتصادية المصرية, وبالرغم من أهمية العناية بالصناعة وبالخدمات, إلا أن القطاع الزراعي فيها لابد أن يأخذ أكبر الأنصبة المتاحة. فتنمية الزراعة ستحسن وتطور حياة الغالبية من السكان وهي التي نحتاجها من أجل تحقيق درجة عالية من التوازن في سلة الغذاء المصرية. هنا نخرج بالعدالة الاجتماعية من مجرد تضييق الفجوة والتفاوت بين الأجور في مصر لنأخذها إلي بدايات التطور الحقيقي لمصرنا الديمقراطية المدنية الحديثة. قد يبدو الطريق طويلا, ولكنه الطريق الصحيح الذي يري فيه البشر نتائجه بشكل مباشر فيتشجعون علي العمل.. ثم الاستمرار في العمل. المزيد من مقالات أمينة شفيق