كانت الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وغيرها من صور إساءة استعمال السلطة والفساد, من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلي اندلاع شرارة ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة. وأبت الأنظمة الحاكمة عقب الثورة أن تتخلي عن السلطة إلا علي أجساد الضحايا والمصابين, فزاد إرث انتهاكات حقوق الإنسان, وظهرت الحاجة ملحة إلي تطبيق آليات وإجراءات ذات طابع خاص, وهو أمر لم يتم في ظل نظام ما بعد الثورة فقد استمرت سلسلة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان, وأذكي النظام المعزول جذوة العنف الطائفي والفرقة بين أطياف الوطن والدين الواحد مما أدي إلي حالة احتقان وانقسام مجتمعي ضربت أطناب المجتمع المصري, وأدت إلي تصادمات غير مسبوقة بين أبناء الشعب الواحد, سوف تتم محاسبة المسئولين عنها حتما أمام التاريخ. واجتياز التحولات الهائلة التي شهدها الشارع المصري تستلزم الأخذ بمفهوم وآليات العدالة الانتقالية لكسر حلقة العنف وبلوغ المصالحة الوطنية. ولأن أهداف العدالة الانتقالية وآلياتها تتسم بالتعدد والتمايز, ومن ثم يجب تطبيقها من خلال إطار مؤسسي يضمن تجانسها وتحقيق أهدافها علي النحو الأمثل. وهذا الإطار المؤسسي يستلزم إصدار تشريع وطني متكامل يحدد آليات العدالة الانتقالية المزمع تطبيقها, ويبين كيفية تحقيق أهدافها, وضوابطها الضرورية, كما يوضح اختصاصات اللجان والهيئات القضائية منها وغير القضائية القائمة عليها, بما يضفي علي الإجراءات صفة الشرعية ويجنب البلاد التحكم والعشوائية في هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة. وميزة هذا التشريع قانون العدالة الانتقالية أنه يحيط الإجراءات بسياج من المشروعية القانونية بحيث ينأي بها عن التحكم والاستبداد ويحيط الشعب بأحكامها وأهدافها بما يحقق نوعا من التوقع والتنبؤ بإجراءاتها. وإذا كانت تتم الإشارة عادة إلي تجربة جنوب إفريقيا كأحد التطبيقات الناجحة لمفهوم العدالة الانتقالية, فإن ذلك يرجع بصفة أساسية إلي نجاح المشرع الوطني عقب انتهاء حقبة الفصل العنصري في تبني قانون خاص لتحقيق أهداف العدالة الانتقالية سمي قانون تحقيق الوحدة الوطنية والمصالحة صدر في مايو2005, حدد اختصاصات ومهام الهيئة المختصة ببلوغ المصالحة الوطنية وآليات عملها. وهناك عدة تساؤلات أساسية يجب طرحها والإجابة عليها قبل الشروع في إعداد قانون للعدالة الانتقالية, منها:(1) ما هي كيفية تشكيل واختصاصات الهيئة التي سوف تضطلع بتطبيق قانون العدالة الانتقالية؟(2) ماهي المراحل الزمنية التي سوف يغطيها القانون؟(3) ما هي نوعية الجرائم التي سوف يتصدي لها القانون؟(4) ما هي نوعية الآليات التي سوف يشتمل عليها القانون؟(5) هل توجد الخبرات الكافية والكوادر ومصادر التمويل اللازمة للاضطلاع بآليات العدالة الانتقالية؟ والإجابة عن التساؤلات المتقدمة يجب ألا تقتصر فقط علي النخبة وعلي تيارات سياسية بعينها, بل يجب أن يشارك فيها أطياف المجتمع كافة, وهذه إحدي سمات منظومة العدالة الانتقالية. ولما كان للقاعدة القانونية تأثيرات قوية علي مجالات الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية, لذلك يكون من المهم طرح مشروع هذا القانون للحوار المجتمعي, لضمان المشاورة المجتمعية الفاعلة, والتلاحم بين الإرادة السياسية لصناع القرار والإرادة الشعبية للمجتمع. ونؤكد في هذا السياق أهمية زيادة الوعي المجتمعي بمفهوم وأهداف العدالة الانتقالية, بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية,وهو الأمر الذي يستلزم الاضطلاع بحملات إعلامية منسقة للتوعية بمفهوم العدالة الانتقالية, مع تعظيم دور المؤسسات الدينية في الترويج لمفهوم العدالة الانتقالية, خاصة وأنه يتفق مع ما ورد بجميع الشرائع السماوية التي تدعو إلي ترسيخ مبادئ المساواة والتسامح والعفو والمصالحة. إن الجرائم التي ارتكبت ضد أبناء الشعب المصري إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير وكذا إبان موجتها الثانية تتسم بالتنظيم المؤسسي, وهي تخضع لنظرية مسئولية القادة والرؤساء التي أرستها المحاكم الجنائية الدولية وأخذت بها النظم القانونية المقارنة في الدول المتقدمة, وهي تقوم أساسا علي مسئولية القائد أو الرئيس عما يرتكبه تابعوه من جرائم في حق المدنيين طالما كانت له سيطرة فعلية علي تابعيه من قوات أو ميليشيات وعلم بارتكابهم تلك الجرائم ولم يتدخل لمنعها وقمعها أو محاسبتهم عنها, أو نتيجة عدم ممارسة القائد أو الرئيس سيطرته علي تابعيه بطريقة سليمة. ولعل هذا النص يشكل رادعا لكل من يتولي مركزا قياديا, لذلك فمن المهم أن تتزامن إجراءات العدالة الانتقالية مع تحديث منظومة العدالة الجنائية في مصر وتكريس مسئولية القادة والرؤساء في القوانين الجزائية. ونأمل أن يؤدي الأخذ بمبادئ وأهداف العدالة الانتقالية إلي إنصاف المظلوم والأخذ علي يد الظالم, بما يضمن عدم تكرار ما حدث من انتهاكات لحقوق الإنسان وصور إساءة استعمال السلطة مستقبلا, حماية لأبناء الشعب المصري, وتكريسا لمكتسبات ثورتهم المجيدة. لمزيد من مقالات المستشار.عادل ماجد