طالما واجهت جماعة الإخوان أزمات سياسية مع الدولة المصرية, خصوصا أزمتيها الكبريين مع العهد الناصري منتصف الخمسينيات والستينيات, حيث وقعت محاكمات كبري أعقبتها أحكام بالإعدام والسجن, راح ضحيتها بعض قادتها الكبار وعلي رأسهم سيد قطب. وبعد فترة قصيرة من الحميمية مع الدولة نهاية العهد الساداتي, انتهت بمقتل الرجل في يوم عيده وعيدنا وعيد قواتنا المسلحة, علي يدي جماعة إسلامية خرجت من الرحم الإخواني, يبدو أن الدولة المصرية وعت الدرس جيدا وأدركت أنه لا لقاء بين جماعة ذات مشروع طائفي, وبين مشروعها الوطني. وعبر عقود ثلاثة استغرقت عهد الرئيس الأسبق, كان ثمة قمع ممنهج للجماعة يضعف حضورها ويقلل منسوب تأثيرها ولكنه لا يقضي عليها فاستمر وجودها في الشارع وفي البرلمان. ربما رأت الدولة المصرية أن وجود الجماعة في البرلمان يعطي للنظام شكلا ديمقراطيا مرغوبا تصديره إلي الخارج, وربما رأت إن العنف الإستئصالي للجماعة قد يدفعها إلي إرهاب واسع, فاختارت التعايش معها حتي أن بعضا من رجال النظام كانوا يحضرون مناسبات عامة للجماعة, وينسقون معها في الانتخابات البرلمانية, من دون أن يمنع ذلك وقوع حملات اعتقال في مناسبات مختلفة عندما تخرج الجماعة علي الخط الأحمر المرسوم لها, أيا كانت الأسباب والملابسات. بسقوط النظام القديم( الحاكم) أمام الموجة الثورية الأولي في25 يناير2011, تقدمت الجماعة لوراثته باعتبارها المعارض الرئيسي له, من دون أن ينتبه الناس أن كل معارضة هي جزء من النظام الذي تعارضه, مصوغة بآلياته وإن لم تكن مصنوعه من نفس خاماته. ادعت الجماعة نزوعا ثوريا لم يكن حقيقيا, وأظهرت نزوعا انتهازيا مكنها من القفز التدريجي علي الثورة, والتمكن منها عبر صندوق الإنتخابات, تعويلا علي ضعف المعارضة المدنية وتشتتها, حيث واجهت الجماعة, لأول مرة في تاريخها, معضلة الحكم. وعبر عام تبدي مثل دهر طويل, ثبت فشلها العميق وعجزها المزري, سواء لضعف الكفاءة أولقوة الرغبة في الاستحواذ, حتي تجاوز مشهد الحكم حدود الفشل إلي مستوي العبث خصوصا في أزمة سد النهضة, ولذا جاءت النتيجة علي نحو ما جري في30 يونيو, وهي موجة ثوريةكاملة, ربما كانت أعمق من موجة يناير لأنها دارت حول أفكار وليس فقط سياسات, تمردا علي استبداد ديني تقليدي لا استبداد علماني حديث. بسقوطها المدوي تواجه الجماعة تحديا كبيرا ليس من النوع السياسي المألوف في مواجهة الدولة, ولكن من نوع وجودي تخوضه للمرة الأولي في مواجهة المجتمعالذي أطاح بها وهي علي رأس الدولة. لقد تمكن المصريون من إسقاط الجماعة( المنظمة) بخروجهم الكثيف في30 يونيو بكثافة تفوق كثيرا تلك التي خرجوا بها علي النظام المهتريء في25 يناير, لأن خروجهم الأخير لم يكن فقط دفاعا عن مستوي عيشهم أو تحررهم السياسي, وهما أمران طالما افتقروا إليهما في ظل نظام مبارك, ولكن أيضا دفاعا عن( نمط حياتهم) المعتاد والمهدد, في ظل دولة مدنية حديثة وإن مستبدة, طالما حرمتهم الحرية السياسية لكنها لم تقيد حريتهم الإجتماعية, فلم تحرم فنونهم, ولم تتهمهم بالكفر آثارهم أو تدعوهم إلي الجهاد في غير أراضيهم, مما يكشف في النهاية عن نمط عيش بدائي علي الشاكلة الأفغانية لا دولة متمدينة علي الطريقة المصرية. وعلي العكس من المعارك المجربة مع النظم, والهزائم المألوفة أمام الدولة, تلك التي خرجوا منها أكثر قوة بفعل تعاطف المجتمع معهم, واحتضانه لهم, تبقي الهزيمة أمام المجتمع نفسه خارجة عن الكتالوج المعتاد الذي يقرأون فيه وينقلون عنه. ولهذا يبدو الشعور بالهزيمة عميقا, ويتبدي المأزق وجوديا, يحتاج إلي معالجات مختلفة من قبل الجماعة التي يتبدي أمامها طريقان لا ثالث لهما: الطريق الأول هو التجديد, ويبدأ بالاعتراف بحقيقة أن فقهها السياسي قديم, وأنها بحاجة إلي مراجعات عميقة, واجتهادات جسورة تمكنها من الإسهام في حركة إصلاح ديني تأخرت كثيرا عن وقتها, ربما بفعل الجماعة نفسها, التيكانت أوقفت بدايات جنينية لمثل هذا الاصلاح, رافقت ميلاد الوعي النهضوي العربي في القرن التاسع عشربفعل اجتهادات رواد كثر علي رأسهم الطهطاوي والتونسي والألوسيوالأفغاني, وبلغت ذروتها مع الإمام محمد عبده الذي حاول بناء عقلانية عربية إسلامية, قبل أن ينتصر, برحيله, ذلك النزوع السلفي المحافظ لدي تلميذه محمد رشيد رضا, ويتجسد في كيان سياسي علي يديتلميذ رضا( الإمام الشهيد) حسن البنا. ويمر هذا الطريق بالمصالحة مع المجتمع المصري بثقافته المتسامحة, التي تجعل من التدين قرينا لحالة أخلاقية أكثر طهرانية, وحالة وجدانية أكثر روحانية, وظيفتها إضفاء الشعور بالأمن النفسي والتكافل الاجتماعي, وليس قرينا لانتماء إيديولوجي متشدد, أو سلوكسياسي معين. ويبلغ هذا الطريق محطته الأخيرة باندماج تدريجي في مشروع الدولة, علي قاعدة الوطنية المصرية العريقة, فلا يأتي من قادة الجماعة أو أعضائها من يقول( طظ في مصر). وبالطبع يتطلب هذا الطريق قبولا من الجميع لهم, واحتراما كاملا لحقهم في الممارسة السياسية والتعبير الثقافي. أما الطريق الثاني فهو التطرف, ويبدأ بإنكار الفشل المبين, وإلقاء المسئولية علي الآخرين, والتمسك المعتاد بنظرية المؤامرة من قبل آخرين يكرهون الجماعة( السامية) وإسلامها( المثالي) الذي يمهد لأستاذية العالم انطلاقا من وطن يعز فيه الحصول علي عبوة بنزين. ويمر هذا الطريق بممارسة عنف سياسي دفاعا عما تعتقده شرعية شعبية تم إهدارها علي يدي الجيش, تجاهلا لمشاهد ملايين المعارضين, وإصرارا علي شرعية صندوق تبدو مبتذلة من دون إنجاز يضمن رضاء الناخبين. ويصل هذا الطريق منتهاه بإشاعة موجة إرهاب جديدة تبدت ملامحها عند كتابة هذه السطور, تشبه ما عانيناه خصوصا في التسعينات, مع فارق كبير وهو أن الإرهاب القديم نسب إلي جماعات جهادية, ومورس ضد دولة أمنية, ومن ثم كان ممكنا تجاوزه, أما إرهاب اليوم فينسب للجماعة ذاتها, ويمارس ضد المجتمع نفسه, ما يلقي علي الجرح بالملح, ويحيل أزمتها من فشل سياسي طاريء يتطلب نوعا من التجديدوالابتكار, إلي مأزق وجودي عميق, يعكس نوعا من العجزالثقافي المزمن. لمزيد من مقالات صلاح سالم