في ظل ما تشهده البلاد من أحداث سياسية, والاتهامات المتبادلة بين القوي السياسية, وتضارب الفتاوي حول حق التظاهر السلمي والتنديد بسياسات الحكومة, أكد علماء الدين أن إخلاص النية والقوة والعدل بين الرعية, أولي واجبات الحاكم المسلم, وأن القوة تستلزم الرحمة بالبلاد والعباد. وأوضح علماء الدين أن إخلاص النية لله كما هو واجب علي الراعي, فإنه لازم للرعية كذلك, لحديث الرسول صلي الله عليه وسلم, كيفما تكونون يولي عليكم. ويقول الدكتور محمد الشحات الجندي, عضو مجمع البحوث الإسلامية وأستاذ الشريعة بكلية الحقوق: يعتبر الإخلاص من مقومات الحاكم المسلم, ومن بين المؤهلات التي تجعله جديرا وحقيقا بمنصب الرئاسة علي الرعية, فمما لا شك فيه أن الحاكم مطالب بآداء الأمانة وحماية حقوق الرعية, وهذا الواجب لا يتأتي فقط بمجرد قيامه بممارسات ظاهرية يستفاد منها الحرص علي القيام بواجباته والاضطلاع بمسئولياته, لأن هناك أمورا ومقتضيات تلم بالوطن والأمة قد لا يعلم أبعادها ولا الآثار المترتبة عليها إلا الحاكم الذي يطلع علي ما يحيط بها من تداعيات وتبعات, مما يستوجب أمر إخلاص النية, وإيثار مصلحة الأمة ومواجهة هذه الأمور وفق ما يمليه عليه حقوق الله والرعية, فالقرآن الكريم يؤكد أهمية إخلاص النية من جانب الحاكم ومن جانب كل مسلم بقوله تعالي فاعبد الله مخلصا له الدين الزمر:2 وقوله تعالي:وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين البينة:5 وقول الرسول صلي الله عليه وسلم: أد الأمانة إلي من ائتمنك, ولا تخن من خانك فلا سبيل إلي أداء الأمانة علي وجهها الصحيح إلا بخلوص النية لله تعالي, والصدق في الإحسان إلي الرعية, والقيام بواجباته تجاه جميع أفراد الأمة بلا استثناء, وهو موجب المسئولية التي أشار إليها قوله تعالي كل نفس بما كسبت رهينة المدثر:38 وقوله تعالي وقفوهم إنهم مسئولون الصافات:24 وقول الرسول صلي الله عليه وسلم في الحديث المعروف: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته, الإمام راع ومسئول عن رعيته, والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته, والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها, والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته, وكلكم راع ومسئول عن رعيته رواه البخاري, فيثبت من ذلك أن إخلاص نية الحاكم تشكل ذروة سنام الحكم في الإسلام وعموده الفقري الذي لا يمكن معه أداء واجباته الحقة إلا بالتزام هذه النية الصادقة والمخلصة. ومما يترتب علي إخلاص النية وصدق تعامل الحاكم مع رعيته وأمته, أن يكون مستوجبا طاعتهم له ومؤازرته ومساندته في أمر الحكم, إذ من المقرر شرعا أن صلاح الرعية من صلاح الحاكم, وقيمة إخلاص النية والتجرد عن الطمع والهوي, والنية الصادقة في رضا الله ومثوبته وتوافر الوازع الديني والضميري الذي ينتزع من الإنسان المسلم آفات الأنانية والطمع وخيانة الأمانة ونهب المال العام والفساد وغيرها من الآفات التي يعانيها حاضر العالم الإسلامي علي خلاف ما سطره الإسلام من مبادئ وقيم في الحكم, مما قدم نموذجا كارثيا علي نظر الغرب تجاه الإسلام والحكم الإسلامي ونعتوه بأنه حكم مستبد يعتنق مفهوم الدولة التي لا يسأل فيها الحاكم عن انحرافه ونهبه للمال العام واستبداده وإيثاره لمصلحته الخاصة هو ومن يعاونوه خصما من النصوص القطعية والسنة المتواترة التي تؤكد أن الصدق والإخلاص والعدالة والحرص علي الصالح العام هي أصول ينبغي أن يتأسس عليها الحكم إذا أراد بحق أن يكون حكما إسلاميا يحوز المشروعية الإسلامية ويعبر بصدق وإخلاص عن رسالة الإسلام في إصلاح الراعي والرعية التي أشار إليها الرسول صلي الله عليه وسلم: كيفما تكونون يولي عليكم, ويقرب من هذا المعني الجليل العبارة المتداولة علي الألسنة الناس علي دين ملوكهم وهو تعبير لا يبلغ شأو الحديث المشار إليه, ولا تعبر بحق عن قيمة صلاح الحاكم وجدارته واستحقاقه لاعتلاء سدة الحكم, وإن كانت تشير إلي بعض دلالته, ولعل هذا الإخلاص من جانب الحاكم هو الذي جعل الأمة الإسلامية في مقدمة الأمم صلاحا وعدلا وصدقا في عهودها الزاهرة, وقدم نموذجا فذا أنكر فيه الحاكم نفسه وجعل عمله خالصا لوجه الله مما جعل هذه الأمة تحقق الريادة والمجد الديني والإنساني والحضاري في مدة قصيرة لا تقارن بالمدد التي مرت بها الإمبراطوريات والحضارات التي يتغني بها العالم المعاصر مثل الحضارة اليونانية والرومانية والفارسية, وحتي حضارة الغرب الحديثة التي إذا كانت قد اعتمدت علي الصدق وإخلاص النية تجاه شعوبها فإنها قد تنكبت عن هذا الطريق في معاملة الشعوب الأخري خاصة شعوب العالم الإسلامي الذي انتهبت مواردها وثرواتها واستعمرتها واستبدت بها وحققت العديد من أوجه التقدم من أموال وثروات شعوب العالم الإسلامي المعاصر, فهي حضارة منحازة وتختزل مفاهيمها من الصدق والإخلاص علي شعوبها فقط, علي خلاف الإسلام الذي جسد الإصلاح وجعله الشريعة العامة والفريضة الدائمة لقوله تعالي( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) النساء:114 وهنا يلاحظ أن الإصلاح ليس مقصورا علي المسلمين وحدهم, وإنما لكل الناس مصداقا لعموم الرسالة الإسلامية للبشرية كافة لقوله تعالي( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:.107 ويوضح الدكتور زكي عثمان, أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية وأستاذ التفسير الموضوعي للقرآن الكريم بجامعة الأزهر: أن حديث إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي.. حديث له أهميته ومكانه ومكانته في كل أمر من أمور المسلمين سواء كان ذلك الأمر أمرا عقديا أو سياسيا أو اقتصاديا, ففي كل مجالات الحياة نجد لهذا الحديث موضعه, وحينما نركز علي النظام السياسي وكيف يكون للحاكم دوره, فبادئ ذي بدء إخلاص النية وإتقان العمل, فبذا تتحقق المسئولية التي يكون الحاكم مسئولا عنها, ويدرك حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم: كلكم راع ومسئول عن رعيته.. وإخلاص النية ليس شعارا, بل هو إخلاص ينتج عدالة, فالحاكم العادل يعرف كيف يعدل وأين ومتي ولماذا؟ وهنا ننظر إلي حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يقول فيه: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. فأول السبعة إمام عادل, وهذا العدل عدل شمولي لا يختص أحدا دون آخر, كما بين الله عز وجل في قوله: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به النساء:58 فما أجمل أن ننظر إلي إخلاص النية, حيث النقاء والطهارة والنظافة والبعد عن التدليس والرشوة والبعد عن الظلم, فالظلم ظلمات يوم القيامة, والحاكم الذي يمتلك إخلاص النية يريد أن يصلح من شأن أمته يوفقه الله إلي ذلك الأمر, أما إن كان غير مخلص في نيته فسيجد عثرات ومعوقات لا يستطيع أن يتخلص منها, وتاريخنا مليء بحكام ضربوا أروع الأمثلة كسيدنا عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز وصلاح الدين الأيوبي, فلشدة إخلاصهم جعل الله لهم صفحات مضيئة في تاريخهم, وننظر إلي سيدنا عمر بن الخطاب حينما كان نائما تحت شجرة, فأتي رسول من قبل الروم يسأل عن سيدنا عمر, قائلا: أين أميركم؟ قالوا: هو ذاك الذي ينام تحت الشجرة, ومن هنا تخرج كلمات من قلب الرجل: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر. نعم إنه ما من حاكم يحشر يوم القيامة مغلولة يده في عنقه لا يفكها إلا العدل, والعدل لا يأتي إلا من إخلاص النية وصفاء القلب, حتي يكون مجتمعنا مجتمعا فاضلا, وتكون أمتنا أمة داعية إلي الخير. من جانبه يقول الدكتور جعفر عبدالسلام, أستاذ القانون الدولي بجامعة الأزهر وعميد كلية الشريعة والقانون السابق: المسائل في الشريعة الإسلامية منوطة بالنيات, فالنية عامل أساسي في كل العبادات, بل وفي كل الأعمال التي يأتيها المسلم, والنية رغم أنها شأن داخلي في نفس الإنسان فإن أثرها يبدو بوضوح فيما يأتيه من أعمال, لذا قال رسول الله صلي الله عليه وسلمإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي, فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله فهجرته إلي الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلي دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلي ما هاجر إليه. ومن هنا فإن نية الحاكم والمحكوم كذلك مهمة ومؤثرة في الأعمال التي تأتي منها, والحاكم بالذات يسوس أمور الناس ويحاسبهم, وبالطبع الله سبحانه وتعالي يحاسبه علي ما يقترف من أعمال مصلحة أو مسيئة, والحاكم بالذات اعتبره الإسلام من أهم مظاهر الحياة, وصلاح الناس ينبع من صلاحه, لذلك يقول الرسول صلي الله عليه وسلم في حديث آخرسبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.. إلي آخر الحديث, وأول هؤلاء السبعة هو الإمام العادل. ويحرك الإسلام المجتمع بما يفعله الحاكم, ومن ثم فإن ما يبيته في نفسه من خير أو شر يحاسبه الله به, وبالذات إذا تجلي في أعماله وهو لابد أن يتجلي في هذه الأعمال, وهنا نأتي إلي مسألة مهمة وهي أن المهم في الإسلام لا يتم التعبير به عن النية, لذا أثر القول: لنا الظاهر والله يتولي السرائر. وهي قاعدة تجعل الحكم علي الأشياء فيما يبدو منها ظاهرا, وهو يعبر عن النية بشكل ما, ومن العبارات التي تقال عادة إن الناس علي دين ملوكهم فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس, وقيل أيضا إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن, لأن الحاكم يملك التغيير ويملك حمل الناس علي ما يريد أن يحملهم عليه, وإذا صلحت نيته صلح عمله وأصبح قدوة للمجتمع الذي يحكم.