من الطبيعي أن ينبهر المهزوم بالمنتصر ويقتفي أثره ويسير علي هداه, وليس من الطبيعي أن ينبهر المنتصر بالمهزوم, ويسير علي نهجه ويهتدي بخطاه. لقد غزت جيوش فرنسا مصر وغزت مصر بكل ما فيها قلوب الفرنسيين جنودا وشعبا وأمة وإمبراطورا. أصابت الفرنسيين حمي الشرق وحمي التمصر(EGYPTOMANIA) وتجلت في كل مظاهر الحياة في قطع الأثاث والثياب والتصميم المعماري, وفي المظهر العام ولكن أهم موقع أصابته حمي التمصر هو الفكر التشريعي والقانوني وعقل الإمبراطور نفسه الذي بهرته عسكرية المماليك واستبسال المقاومة المصرية وإقبال المقاومين علي الموت كإقبال الفرنسيين علي الحياة. وفي وقت واحد تحول القانون الفرنسي قبلة الشريعة الإسلامية والجيش الفرنسي قبلة فروسية المماليك. لا يشغلني إسلام نابليون فسوف يبقي هذا الأمر محل جدل أزلي لا تحسمه إلا الخبايا الإمبراطورية وعلمها عند الله, وإنما تشغلني أثار إنبهار نابليون بالإسلام, وكيف اقتدي الإمبراطور الغازي المنتصر بالأمة التي هزمها. وهل حقا أنار الغازي الشرق أم إقتبس هو من نور الشرق ؟؟ لقد أعطانا نابليون المطبعة والطريق إلي علوم لم تكن عنا ببعيدة ومع ذلك طنطن الانهزاميون بها دهورا وقالوا تنويرا, بينما أخذ منا الامبراطور الغازي( كود الأخلاق النابليونية) أو القانون المدني الفرنسي والدستور الفرنسي وعلي عكس ما تصور الكثيرون أخذ أعلي تكتيكات القتال التي غزا بها العالم وانتصر, بل وصفوة الصفوة من محاربي جيشه الحرس الامبراطوري فجعله من المماليك, وتجاهلنا نحن, وتجاهل المنتصرون ما نقله الغازي عنا وأخذه منا وكأنهم لا يدينون لنا بأسمي ما يفاخروننا به قانون التحضر والأخلاق, أو كل القانون المدني الغربي المأخوذ عن القانون الفرنسي عن الكود النابليوني عن الفقه المالكي بنسبة95% وهذا ما تناولته في المقال السابق. عجبا!! إن كان القانون هو الحجر الركن في أساس الحضارة, وإن كان القانون الغربي مأخوذ بنسبة(95%) من الشريعة الإسلامية عن طريق احد ألهة أو أنبياء التنوير كما يحب بعض المتغربين تسمية نابليون لم نرفض نحن الأصل الشريعة الإسلامية' إن كان أصل النور عندنا, فلم نسبغ علي أنفسنا صبغة الظلام, لم نجلد أنفسنا ونستحي منها. وأما عن التفوق الحربي للغرب الغازي المنتصر والتخلف الحربي للشرق المنهزم كما إدعي المتغربون أو المنهزمون فها كم حقائق التاريخ, كما سجلتها أقلام الغرب نقلا برواية بريئة من رأي ناقلها. حقيقة معارك الإسكندرية وشبراخيت والهرم جاء في كتاب الجذور الإسلامية للرأسمالية المصرية(18401760) للكاتب بيتر جران ISLAMICROOTSOFCAPITALISMEGYPT وفي ص29 حرفيا ما يلي. ' وعندما علم مراد بك بسقوط الأسكندرية خرج من القاهرة لملاقاة نابليون, وعند شبراخيت ثبت مجموعة من بطاريتي مدفعية أحداهما موجهة إلي النيل مكونة من تسعة مدافع ثقيلة والأخري مثلها موجهة إلي الصحراء' ( وقد كان مراد بك وحده يملك مئتي مدفع بمخازنه في المطرية, إلا أن عيوب مدفعية المماليك أنها كانت ثابتة, غير متحركة وغير قادرة علي المناورة). ويستمر الكاتب:' وكان الأدميرال بيريه يتقدم نحو القاهرة مبحرا في النيل ففوجيء بوابل من نيران المدفعية المدمرة ولم يستطع المقاومة فهجر البحارة الفرنسيون مراكبهم واستولي عليها المماليك'. ثم يستمر الكاتب: لحسن حظ الحملة ونابليون تصادف أن تكون بعض سرايا المشاه الفرنسية متقدمة بما يكفي لنجدة هذه السفن فقامت بالإستيلاء علي بطاريات المدفعية أثناء إنشغال المماليك بالسفن المهجورة, وساعدوا الأدميرال بيريه علي إستعادة السفن' وكانت معركة شرسة ومميتة قلما تناولها الباحثون خسر فيها كل جانب ثلاثمائة من الجنود ورغم قلة عددهم لم ينهزم المماليك وإنما إنسحبوا إلي القاهرة لتحصينها. ويستمر الكاتب: حتي معركة الأسكندرية لم تكن بالمعركة السهلة كما ارخ لها المؤرخون الرومانطيقيون بالغرب وإنما كانت معركة شرسة ومميتة للفرنسيين, كما يظهر لنا خطاب من ضابط فرنسي مؤرخ6 يوليو1798 يتحدث عن المماليك بالأسكندرية, وكيف أن مدفعيتهم كانت ضعيفة, ولكن بنادقهم كانت قاتلة ومن عدة مصادر فإن الإنسان يستطيع أن يحكم أن الفرنسيين لم يستولوا علي الأسكندرية بالتفوق الحربي دون مقاومة قاتلة إضطرتهم لشراء تعاون بعض البدو الذين بادروهم بالمقاومة في الطريق وأسروا منهم ثلاثين جنديا لم يستعدهم نابليون إلا بالتفاوض وسداد المقابل, ومكنه هذا من طرق باب الاستعانة بالبدو علي المماليك. معركة الأهرام يستمر الكاتب: وفي معركة الأهرام كان نابليون أكثر حرصا علي تفادي مدفعية المماليك التي تشكلت من مدافع ثابتة غير قادرة علي المناورة من السهل الهروب من مرمي نيرانها, وركز هجومه علي فرسانهم, وفي خطاب للجنرال كليبر في27 يوليو1798 يقول الكاتب نقلا عنه' إن نابليون قدر أن قوة قوامها3000 إلي4000 من فرسان المماليك الذين ركز عليهم نابليون هجومه الشامل, هاجمت جيشا قوامه أربعة وعشرين ألفا من الفرنسيين وأخذت وحدها ثقل الهجوم الفرنسي بكل جسارة واستهانة بالموت وقد فقد الفرنسيون في هذا الهجوم أكثر من مائتي قتيل ومثلهم جرحي بينما فقد المماليك ما بين700 إلي800 قتيل معظمهم غرقا في النيل' عندما واجهتهم مدفعية نابليون الرشيقة المتحركة علي عجل والقادرة علي المناورة. ويضيف الكاتب: في تعليق آخر لكليبر يقول:' إن النتائج العسكرية للحملة لم تكن مقنعة أننا انتصرنا انتصارا حاسما'. ويعلق الكاتب:' في الواقع فإن نابليون اضطر إلي تغيير إستراتيجيته من المواجهة المميتة حتما إلي محاولة شراء بعض الخصوم والأقليات كالإغريق والروم والأرمن والمماليك حديثي العهد بالمؤسسة العسكرية للمماليك'. ويضيف:' كما أنه حاول استمالة الطبقة الوسطي وعلماء الأزهر والتجار بكافة الوسائل تفاديا للمقاومة التي قال إنها ستفشل الحملة بالتأكيد'. انبهار نابليون بفرسان المماليك لم يكن الإنبهار بالمماليك طاغيا علي نابليون وحده وإنما كان طاغيا علي جميع جنود وضباط الحملة وورد في رسائلهم كما سجلتها العديد من أقلام المؤرخين في كتب مثل( مماليك نابليون) NAPOLEON`SMAMELUKES ذP.RONALD,C.PATRICE أو كتاب( الأوديسيا المملوكية في الجيش النابوليوني) L`ODYSSEEMAMELOUKEAL`OMBREDESARMEESNAPOLEONIENNES وقد أجمعت المصادر علي عبارة نابليون: ' لو أن لي حفنة يد من هؤلاء الفرسان لهزمت بهم العالم' وأنه أمر الجنرال مينو بعد موقعة عكا بجمع ألفي مملوك وتجهيزهم للسفر إلي فرنسا لتكوين نواه كتيبة المماليك بالجيش الفرنسي. هذا الحلم الذي لم يغادر نابليون حتي معركة ووترلو, وهذا الشبح الذي أرق خصومه في جميع معاركه ولم يغادر القوات المنتصرة حتي قاموا بذبح معظم هؤلاء المماليك في شوارع باريس بعد النصر علي نابليون. لقد احتفظ نابليون بالمماليك في جيشه بنفس مظهرهم الإسلامي.. نفس الثوب ونفس الشعار الهلال والنجمة واللون الأخضر والعمامة الكبيرة, وشكل منهم أول كتيبة من الحرس الإمبراطوري واضطر لتغيير القانون الفرنسي الذي كان يمنع إلحاق الأجانب بهذا القسم من الجيش, وسماهم بالقوة الخاطفة, وكان يحتفظ بهم للحظات الأخيرة من المعركة حين يحتاج لنصر حاسم. تشكلت كتيبة المماليك الأولي بالجيش النابليوني من160 فردا( ثلاثة عشر ضابطا و147 جنديا) يرتدون العمائم والسراويل ويحملون أوشحة خضراء عليها الهلال والنجمة رمز الجندي المسلم بالغرب. حتي حرسه الشخصي الملاصق له وأقرب الناس إليه كانوا المملوكين الشهيرين رستم وعلي وعندما مات علي أو اختفي إستبدله نابليون بفرنسي ألزمه بالتسمي بالإسم علي وإرتداء الزي المملوكي وذكره التاريخ علي أنه( علي) المملوك المصري وتناسوا من فرط حرص الإمبراطور علي تمصيره أنه الفرنسي لويس إتيان المولود بمدينة فرساي. لقد شكل المماليك القوة الخاطفة في الجيش الإمبراطوري وشاركوا في كل معاركه وكان دائما يردد' هؤلاء جنود لا يهابون الموت' وقد خلد هجومهم الخاطف في حروب نابليون الفنان( فرانسيسكو جويا) في لوحته المعروضة باللوفر, هجوم المماليك]. لقد كان إنبهار نابليون بحضارة الشرق أبلغ من إنكار المنكرين فلم يكن شفهيا أو نظريا أو معرضا لجدل المجادلين, وكان برهانه الساطع القانون الفرنسي المدني المنقول عن ترجمة كاملة لفقه الإمام مالك, وكذلك الدستور الفرنسي وما به من حقوق الفرد والحاكم والأمة0 لقد كان هذا البرهان( مجموعة نابليون المدنية), كما يقول المؤرخون أهم إصلاحات نابليون حيث حل هذا النظام القانوني الكامل والعالمي محل القانون الروماني المعمول به في فرنسا في ذلك الوقت والذي وصفوه( بالمتناقض والأثريANTIQUATED), كما كان دليله الأوضح هو المماليك في صفوة الصفوة من الجيش الإمبراطوري وحول الإمبراطور بنفس هيئتهم التي انطبعت في ذهن الإمبراطور المنتصر عند أول لقاء علي تلال العجمي غرب الأسكندرية. لم تكن الفجوة الحضارية في ذلك الوقت بالإتساع الذي هوله المغرضون- وإن كانت- ففي صالح المنقولة عنه قوانين الأخلاق وليست في صالح الناقلين كنا نحن من وهبنا النور إلي أوروبا في صورة( مجموعة نابليون المدنية) أو قانون الأخلاق عندها أوشكت الإمبراطورية أن تتمصر أو تستشرق. كان الشرق في قلب الإمبراطورية والإمبراطور. والمماليك في قلب الجيش. والشريعة في قلب اللجنة الإمبراطورية للقانون والدستور. إنها نفس الأشياء التي طردناها من حياتنا. فإننا البلاد التي وصفوها فقالوا لا كرامة لنبي في وطنه0 وللحديث بقية. لمزيد من مقالات محمد تاج الدين