كتب: إبراهيم سنجاب رغم اختلاف التجربة, والتفاوت الكبير في مستوي الحياة الاقتصادية والاجتماعية, إلا أن مشوار التنمية في قريتي القراموص بالشرقية وميت بدر حلاوة بالغربية, يستحق الدراسة والتأمل. فالأولي تجربتها محلية من الألف إلي الياء وتكاد تشبه الحواديت, أما تجربة الثانية فدولية ارتبطت بالسفر والعناء والهجرة الشرعية وغير الشرعية. ورغم تفوق ميت بدر حلاوة علي مستوي دخول الأفراد وانتشار مظاهر الثراء, إلا أن ظاهرة العمل الجماعي وما ينتج عنها من ترابط أسري تتميز به القراموص تضعها في مقدمة نماذج التنمية المستدامة التي يجب النظر اليها باحترام( التجربتان حققتا أهدافهما في تغيير ملامح الحياة في القريتين, والأهم من ذلك أن البداية كانت علي يد قيادات محلية مدت العون للآخرين فنجوا جميعا, واستحقوا الاحترام. قرية البردي القراموص هي القرية الوحيدة في مصر وربما في العالم التي تنتج محصولا واحدا من كل حيازتها الزراعية, أيضا هي القرية الوحيدة التي يعمل كل أبناؤها في مهنة واحدة تعتمد علي ما تنتجه أرضهم. وما يثير الاستغراب أنهم تخصصوا في زراعة نبات البردي التاريخي وتصنيعه وتسويقه للبازارات والمعارض السياحية. ويبدو أن هذه القرية التي تتبع مركز أبوكبير بمحافظة الشرقية متفردة في كل شيء, فالبردي عرف طريقه إليها بالمصادفة علي يد واحد من أبنائها. حكاية القرية التي عاشت حياتها قبل عام1976 كغيرها من القري الفقيرة المظلمة بدأت في ميدان التحرير بالقاهرة, عندما كان المجند أنس مصطفي أحمد يسير بجوار حديقة الحرية, فلفت نظره وجود شتلات من نبات البردي بها, فقرر زراعتها أمام منزله بالقرية, وعند حصادها وجد من يشتريها منه, وفوجيء بأن الطلب عليها يتزايد. وبناء علي نصيحة من أحد أصدقائه, قرر التوسع في زراعة المحصول, وكانت12 جنيها كافية لشراء شتلات تكفي لزراعة5 أفدنة. وبدلا من بيع الأوراق كمادة خام قرر الفنان التشكيلي الدكتور أنس مصطفي السيد انشاء مصنع صغير, عملت به15 فتاة من القرية بعد تدريبهن, وهي حكاية شهيرة يرويها أبناء القرية لكل من يتعاملون معه. الخمسة أفدنة أصبحت الآن500 فدان هي كل الحيازة الزراعية للقرية, ونجاح المشروع كان كفيلا بأن يجذب90% من سكان القراموص ليعملوا في زراعة البردي وصناعته وتلوينه. وأصبح من المعتاد أن يتوجه التلاميذ الي مدارسهم في الصباح, ثم يتوجهوا الي الحقول بعد العودة, وفي المساء يعملون في الورش التي أقاموها في منازلهم لتصنيع البردي, حيث يوضع في أوان كبيرة علي النار حتي يتحول لونه إلي البني, ثم تبدأ عمليات الطرق والرص واللصق. المستثمرون الصغار لم يتوقفوا عند زراعة البردي أو تجهيزه, ولكنهم وللحصول علي أعلي العوائد, عملوا علي رسمها, حتي ظهرت ماكينات الطباعة الآلية فاستخدموها, لتوفير الوقت والجهد, كما أخبرني محمد زغلي أحد شباب القرية الذي يؤكد باعتزاز أن الرسوم نفسها تطورت وبدلا من المناظر الفرعونية المعروفة تم تصنيع شابلونات لرسم النقوش والآيات الاسلامية التي تكتب بخطوط مبهرة وألوان رائعة. مباني القرية القديمة فيما عدا القليل مبنية بالطوب اللبن, فالأرض أغلي وأعز من أن يتم الاعتداء عليها بالبناء. طموحات أبنائها بسيطة ومشروعة تتعلق بالتعليم والزواج وإنشاء مصنع صغير. بعض أبناء وفتيات القرية يمكنه أن يكسب في اليوم أكثر من100 جنيه, لذلك فقليل منهم الذي يفكر في العمل خارج القرية وحيث تعتبر مدينة العاشر من رمضان هي الأقرب اليهم, أيضا لا يفكرون في الهجرة إلي أوروبا سواء كانت شرعية أو غير شرعية. شباب ميت بدر.. من النيل الي السين.. والعودة علي الضفة الغربية لفرع دمياط, حيث يمنح النيل الثقة في النفس لأبناء القري المحيطة به, تقع قرية ميت بدر حلاوة بمركز سمنود بمحافظة الغربية. 10 آلاف نسمة هم عدد مواطنيها, ثلثهم يعيش في فرنسا, سافروا إليها بحثا عن الرزق الحلال, فضربوا أروع الأمثلة في التفاني في العمل, فأجبروا الصحافة الفرنسية علي الكتابة عنهم باحترام, فذكرت لوفيجارو بأنهم.. أتوا من النيل الي السين.. ووصفتهم لوبون بأنهم سفراء ميت بدر حلاوة في باريس 6 آلاف شاب بالتمام والكمال علي مدي29 عاما كونوا جالية مصرية في باريس, الرحلة بدأها4 من شباب القرية عام1979 عندما سافروا إلي فرنسا, وأستأجروا غرفة بالقرب من سوق الخضار في باريس العاصمة التي فتحت لهم أبوابها فعملوا في تجارة الفواكه والخضراوات, وتطور الأمر فشاركوا التجار في ملكية المحلات, ثم تمكنوا بالعرق والجهد من امتلاك اجزاء كبيرة من السوق وأطلقوا علي محلاتهم أسماء مصرية مثل النيل والفراعنة والأهرام, بل وأصبحوا ينادون علي سلعهم بلغة فرنسية مختلطة بمفردات مصرية, ومنهم من تزوج من فرنسيات.. باختصار وكما نقول بالعامية أكلوا الجو كما يتردد بين أبناء القرية. الرواد من أبناء القرية المهاجرون لم ينسوا أقاربهم وأصدقاءهم فوفروا لهم فرص العمل في قلب عاصمة النور, حتي تمكن ثلث أبناء القرية من العمل في فرنسا, في حين يحلم الباقون باللحاق بهم, فمستوي المعيشة المرتفع, وحركة العمران المتنامية تزداد يوما بعد يوم.. القصور والفيلات التي بناها المهاجرون والمصممة علي الطراز الأوروبي لا مثيل لها, اليورو هو سيد الموقف وبعض المحلات تحمل أسماء أوروبية, بل إن بعض أبنائها كما يقول مصباح العوضي يعملون وكلاء لأشخاص مهاجرين في شراء الأراضي وانشاء المنازل وإنهاء المعاملات التجارية ومن المعتاد أن تري أحدث موديلات السيارات في شوارع القرية, أما في الاسواق فلا غرابة أن تشاهد سيدة فرنسية جميلة تراوغ البائعين في أسعار الخضار والفاكهة. الثراء الطاغي ألقي بظلاله علي تفاصيل الحياة في القرية الصغيرة, فالارض التهبت أسعارها, والمهنيون من القري المجاورة يفضلون العمل فيها للحصول علي أعلي الأجور, أما مصاريف الزواج فقد لا تكفيها مئات الآلاف. حالة الرخاء انعكست أيضا علي مستوي الخدمات التي أطلق عليها أهالي القري المجاورة لقب ميت بدر جاتوه بالقرية فالمدارس والمستشفي والصرف الصحي تم أنشاؤها بالجهود الذاتية.. مؤخرا قلت فرص السفر بسبب اجراءات الهجرة المشددة من جهة, وارتفاع تكاليف الحصول علي تأشيرة غير مضروبة. مما دفع البعض الي العمل في مشروعات صغيرة. والسعي لاستغلال أموال المهاجرين في الاستثمار خارج القرية. تجربة التنمية في القريتين مختلفة ولكن نجاحهما مميز, مما جعلهما تستحقان الدراسة كنماذج يمكن تطبيقها في قري أخري.