الصحافة الاستقصائية لون متقدم من الصحافة الحديثة، تحتاج الصحافة المصرية والعربية إلى احتضانه كي يتبوأ المكانة اللائقة به بين نظيراتها من صحافة العالم. والأصل في الصحفي أن يتسم عمله بالعمق في طرح القضية، وجمع الأدلة، وتوثيق الحقائق، والمنهجية العلمية، ومن هنا يأتي السؤال : كيف أصبح صحفيًا استقصائيًا؟ لقد أصبح العمل الصحفي الاستقصائي علمًا قائمًا بذاته، إذ يجمع بين النظرية والممارسة. وهنا لا أجد للصحفي الاستقصائي أفضل من مطالعة الدليل التدريبي للصحافة الاستقصائية "على درب الحقيقة" الذي أصدرته منظمة الأمم المتحدّة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في عام 2009، وتُرجم إلى لغات عدّة، منها العربية، إذ يزود الصحفي بأساسيات لا غنى عنها في عمله. كشف المستور وإحداث تغيير طبقًا للدليل : الصحافة الاستقصائية هي الصحافة القائمة على توثيق المعلومات، والحقائق، بإتباع أسلوب منهجي وموضوعي؛ بهدف كشف المستور، وإحداث تغيير؛ للمنفعة العامة، كونها تهدف إلى كشف الأخطاء والتجاوزات، وكون الموضوع المراد كشفه يهم الناس والمجتمع، من خلال الوصول إلى الحقيقة، وكشف الجهة المسئولة عن استمرار الأخطاء. والمسألة الأساسية في الصحافة الاستقصائية –بحسب الدليل- ليست الحصول على المعلومات، وإنما "رواية قصة مكتملة تتعلق بقضية عامة تمس أكبر عدد من الناس، عبر تطوير فرضية قابلة للنفي أو التأكيد، من خلال جمع معلومات تتحول إلى حقائق، وتستخدم القصص والقضايا باعتبارها الأسمنت الذي يربط ويمسك –معًا- كل خطوة في العملية الاستقصائية، وهو ما يُعرف باسم "أسلوب التحقيق القائم على افتراض". ماهيتها وأهميتها ولكن: ما هي الصحافة الاستقصائية؟ وكيف تتم؟ ولماذا يتحتم علينا القيام بها؟ يجيب كل من الدكتور مارك هنتر، والسويدي: نلز هانسون، المشرفين الرئيسين على الدليل، بالقول إن من المسئولية أن نعرف الحقيقة كي يتم تغيير العالم، علمًا بأن "لماذا" تتحول خبريًا في الاستقصاء إلى "كيف"، والإعلامي في الصحافة التقليدية يسعى لأن يكون موضوعيًا دون تحيز لأي طرف في القصة أو حكم عليه، بينما يسعى في العمل الاستقصائي لأن يكون عادلًا ومدققًا في حقائق القصة. وبناء على ذلك يحدد ضحاياها، وأبطالها، ومذنبيها، وقد يقدم حكمًا على القصة، أو يتخذ قرارًا بشأنها، وهنا تكون بنية القصة الدرامية ضرورية لتأثيرها، وتقود إلى استنتاج يقدمه الإعلامي أو المصدر. إن المشاهدين يحبون القصة التي تُقدم قيمًا مضافة لهم .. أي معلومات لا يستطيعون العثور عليها في أي مكان آخر، بحسب المشرفين على الدليل، مشيرين إلى أن المؤسسات التي تقوم بالاستقصاء قد تحقق أرباحًا مالية. وكصحفي : ستجعل نفسك معروفًا في المهنة وخارجها، وسوف تقيم مهاراتك بشكل أفضل في سوق العمل، ولن تجد صعوبة في العثور على عمل سواء بقيت صحفيًا أو لم تبق، كما ستصبح أقوى لأنك ستعرف أنك قادر على العثور على الحقيقة بنفسك، وستتعلم كيفية التغلب على مخاوفك، وسوف تفهم العالم بطريقة جديدة أعمق. وتحت عنوان "اختيار قصة ليتم استقصاؤها" يذكر الدليل أن أفضل طريقة للحصول على فكرة القصة الاستقصائية هي مراقبة وسائل الإعلام، والملاحظة الشخصية، والاستماع إلى شكاوى الناس، مؤكدًا أنه قبل بذل العناء في القصة يجب أن تتساءل: كم عدد الناس الذين سيتأثرون بهذا العمل؟ علمًا بأن القاعدة تقول :"أي شئ يقلل المعاناة عن الناس يستحق الشروع باستقصائه". الفرضية جوهر الاستقصاء ثم يأتي أهم فصول الدليل تحت عنوان :"استخدام الفرضيات جوهر الأسلوب الاستقصائي"، ويؤكد أن الاستقصاء محاولة لكشف شئ غير مألوف، لذلك يجب أن تسأل نفسك: ما الفوائد التي ستجنيها ومؤسستك من هذا الاستقصاء؟ وكيف سيستقبله الجمهور؟ وبحسب الدليل فإن الجزء الأصعب في البحث الاستقصائي هو أن تتذكر القصة بينما تتراكم الحقائق، علمًا بأن العمل الاستقصائي يحولك إلى خبير في الموضوع. أما لماذا الفرضية؟ فلأنها تزيد فرصتك في كشف الأسرار، ولكن يجب ألا تزيد على ثلاث جمل، لأننا "لا نجمع حقائق فقط بل نروي قصصًا نأمل في أن تساعد على تغيير الواقع". وتتوالى النصائح :"إبق تركيزك على السرد..لا تدفنك الحقائق الكبيرة التي تجمعها.. أنت هنا لا تغطي الأخبار بل تصنعها أيضًا". والأمر هكذا، هناك مفاتيح أربعة لاستخدام الفرضيات، يحددها الدليل كالتالي : كن خلاقًا.. كن محددًا جدًا..استخدم خبرتك.. كن موضوعيًا، بمعنى أن تقبل الحقائق التي يمكن أن تثبتها .. وابدأ باستراتيجية، وقسِِّم الفرضية إلى أجزاء، وإبق مركزًا على القصة (الفرضية)..وهنا يمكن التعامل مع بيان رسمي أو معلومات جاءت من مصدر مجهول كفرضية تتطلب تحققًا..(مثال: قضية تلوث الدم في بداية الثمانينيات من القرن الماضي التي غيرت الحكومة الفرنسية، لأن الدم كان ملوثًا بالإيدز، وكانت وكالة حكومية تقوم بتوزيعه على المرضى بالمستشفيات، دون أن يعلموا). المعلومات والمصادر عند الشروع في التحقيق الاستقصائي ارسم خريطة للموضوع.. وابدأ بالبحث عن معلومات عن المصدر (على النت) .. فمهمتك الأولى الحصول على ملخص عام للقصة محل الاستقصاء، وجمع المعلومات.. فأنت بحاجة إلى غرس وممارسة عادة جمع المعلومات في نفسك..حدد اللاعبين الأساسيين في موضوعك، واجمع المعلومات عنهم، وارسم خريطة لمصادرك البشرية، وأعط كل مصدر أسبابًا ليتكلم إليك. أما عند الاتصال بالمصادر فافترض دائمًا أنك تقوم بعمل مهم، وأن أي شخص سوف يسعد بلقائك، ولا تقل الحقيقة كلها أبدًا لمصدرك حول نفسه؛ كي لا يغضب، أو تفقده..وكن مع المصادر مثل المذيعة الإيطالية فالاتشي مع هنري كيسنجر: لا تحمل شفقة حيال الأقوياء، خاصة حين لا يلعبون بشكل عادل، وإذا رأيت ضعفهم استغله.. فاجئ المصدر، واستخدم العواطف، ولا تسمح لها بأن تستخدمك، فالعاطفة معلومات، ولا تنس التخطيط للغد، ومن حقك حماية سرية المصادر. التنظيم وإحكام القصة ومن الأهمية بمكان تنظيم الوثائق، وبناء قاعدة معلومات (ورقية وإلكترونية)، وترتيب السرد بحسب الزمان أو المكان، والبدء باللحظة التي تجذب المشاهد، وأقوى المشاهد في القصة، وألا تدفن القارئ في الحقائق: (بل لابد من التماهي بين القصة والحقائق)، مع التركيز على الفقرة المركزية.. دع المصادر تتكلم، وطبق معايير التحرير الثلاثة: هل القصة متماسكة؟ وهل تنسجم التفاصيل فيها معًا؟ وهل حُلت جميع التناقضات بها؟ إن القصة الجيدة مثل القطار، ولابد أن تتحرك إلى الأمام، كما يجب قص أي فقرة ضعيفة لا تستطيع تعديلها..قصها فورًا..مع مراقبة الجودة، والتدقيق في الحقائق، وشطب العدوانية غير المبررة من القصة، وإعطاء المستهدف حق الرد، ونشر القصة بحيث تثير أكبر قدر من ردود الأفعال. ومع الوصول للفصل التاسع من الدليل نراه يناقش "مقومات الثقافة القانونية للإعلاميين"، داعيًا إلى فصل الرأي عن الخبر، ومراعاة التوازن في عرض المادة، وغير ذلك من الوصايا القانونية المهمة. ويتلو ذلك استعراض سريع لأخلاقيات العمل الاستقصائي، ومصادر الأفكار التي يمكن أن تتحول إلى فرضية تصلح أساسًا لتحقيق استقصائي. [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد