أصبحت مصر( ذات الوادي الخصيب) تستورد طعامها لأول مرة في التاريخ.لقد تم تفتيت نشاط الزراعة وتوزيع مسئولية رعايته والمحافظة علي الرقعة الزراعية بين ست وزارات. بالإضافة إلي المحافظات والمحليات والجمعيات الزراعية وأكثر من عشرين هيئة عامة وجهازا وصندوقا لها شخصيات اعتبارية مستقلة بصورة جعلت الجميع يعملون في اتجاهات متنافرة, ويفسدون أعمال بعضهم البعض. بحيث أصبحت مهمة التنسيق بينهامعقدةبصورة انعكست سلبا علي النشاط الزراعي برمته, وأوصلتنا إلي ما نحن فيه. أصدرت حكومة الثورة قانون الإصلاح الزراعي عام1954 الذي فتت الملكية بصورة سببت انهيار الإنتاجية واضطرت معها إلي فرض نظام الدورة الزراعية, حيث حددت زمامات كبيرة نسبيا لزراعة نفس المحاصيل لتحسين الإنتاجية. لكن وزارة الزراعة ألغت الدورة عام1992 تحت مسمي تحرير الزراعة, مما أدي لتدهور الإنتاج وزيادة مشكلات توفير المياه والبذور والسماد والميكنة, وإنهاك التربة بزراعات متكررة سعيا وراء أقصي عائد. وصرح وزير الزراعة لجريدة الأهرام في22 فبراير2013 بأن التعاون الزراعي المصري الإسرائيلي توقف نهائيا, وذلك ردا علي تساؤلات عن استمرار انعقاد اجتماعات اللجنة الزراعية المشتركة المشكلة عام1981 ضمن معاهدة كامب ديفيد إلي وقتنا الحالي. وقد أوصت اللجنة بعدم زراعة الحاصلات الاستراتيجية غير المربحة, كالفول والقمح والعدس والذرة, وزراعة الحاصلات المربحة كالخضراوات والفاكهة وتصديرها, وشراء ما تحتاجه مصر من حاصلات استراتيجية كالقمح بثمنها, مع إلغاء الدورة الزراعية وإلغاء نظام التوريد الإجباري للحاصلات الاستراتيجية لمصلحة الدولة! وهكذا لم تعد هناك خطط تتبناها وزارة الزراعة للمحاصيل الاستراتيجية وتوفر لها البذور والتقاوي, بما أثر علي نوعية البذور المتاحة وفتح الباب تماما لتفشي فلسفة المتاجرة ودخول الجميع فيها علي حساب المزارع. وبسبب تفتت الملكية وتنوع الزراعات المتجاورة بعد إلغاء الدورة الزراعية, زادت تكلفة الميكنة الزراعية بصورة صعبت استخدامها بدرجة كبيرة. كما تم فصل شركات الكراكات العامة عن وزارة الري التي اقتصر دورها علي تطهير الترع الرئيسية بمقاولين, ونقلت مسئولية تطهير المساقي لجمعيات التعاون الزراعي وعلي حساب المزارعين مما أثر بشدة علي كفاءة المساقي والمصارف وعلي إمداد الزمامات المفتتة ذات الزراعات المتباينة بالمياه بالكميات المطلوبة وفي المواعيد المناسبة. ومع فوضي الزراعات المفتتة ذات الاحتياجات المتباينة للسماد في مواعيد مختلفة, استفحلت مشكلات توافر السماد وأسعاره, خصوصا أن مصانع السماد المملوكة للدولة أصبحت تفضل تصديره بالعملة الصعبة وبالأسعار العالمية علي إعطائه للفلاح بالأسعار المحلية. وتنافس التجار في الحصول علي حصص من السماد المخصص للسوق المحلية بكل الوسائل غير القانونية وبيعها للفلاح بأسعار مضاعفة. كما اضطر المزارعون للبناء علي أرضهم لأبنائهم وبصورة عشوائية, وقام التجار بتبوير الأرض وعمل مشروعات الإسكان الأهلية حول المدن والمراكز, وذلك لقصور مشروعات الإسكان والتعمير العامة عن تلبية احتياجات الناس, فتآكلت الرقعة الزراعية وانتشرت العشوائيات. وأصبح كثير من التجمعات السكنية دون صرف صحي حيث تغطي الشبكات العامة12% فقط من القري والكفور. فانتشر الصرف الصحي في المصارف الزراعية بل الترع, خصوصا مع تهالك الشبكات الموجودة وقصور جهود صيانتها. ومع ضعف البذور وعدم إراحة الأرض, زادت الحاجة إلي المبيدات, وانتشر استيراد واستخدام المبيدات غير المناسبة والمسببة للأمراض لضعف الرقابة وتفشي فلسفة المتاجرة علي حساب المزارع, مما زاد من تلوث التربة والمحاصيل وخصوصا الخضراوات.كما أصبح الفاقد في كل مراحل الزراعة والحصاد والتخزين والتوريد كبيرا, يصل في بعض التقديرات إلي نحو25% من المحصول. فالإنتاج صغير وموزع علي مساحات متناثرة ويحتاج لنقل مسافات أطول, مع تدهور حالة شون تخزين المحاصيل لدي وزارة التموين. وهكذا ترك المزارع فريسة لقوي السوق والتجار التي لاترحم, وكثيرا ما وجد نفسه تحت رحمة تسعير منخفض لمحصوله يعلن بعدما يتورط في زراعته, يبقيه شبه معدم بدخل قد يقل عن300-400 جنيه للفدان في الشهر, في حين يتم دعم الزراعة في كل الدول الغربية وأمريكا. وحتي تكتمل ملحمة معاناة المزارع, يقوم بنك التنمية والائتمان الزراعي بإقراضه بفائدة للقيام بنشاط الزراعة الحيوي للوطن( لاستحالة أن يدخر شيئا بسبب تدني دخله) لكي يتمكن من توفير البذور والسماد والرعاية والحصاد, ليكتشف أنه بعد سداد ديونه المتوالدة في ظل الارتفاع المستمر لتكلفة كل عوامل الزراعة( حسب الأسعار العالمية الملعونة) إما يستمر معدما علي حاله, أو يفقد بعض حيازته أو منزله أو حريته وفاء لمطالب المرابي الذي لايرحم. ويتم الإجهاز علي النشاط الزراعي بالاستيراد العشوائي للمحاصيل الاستراتيجية بواسطة وزارة التموين والتجارة الداخلية وعن طريق مستوردين معدودين كثيرا ما تصل شحناتهم في وقت حصاد المحصول المصري. ومع جهود التفلت من المواصفات التي كثيرا ما يكتب لها النجاح, يتم الاستيراد بأسعار متدنية تسهم في القضاء علي نشاط الأجداد منذ عهد الفراعنة وصرف المزارع عن الزراعة. فإذا بقي في الجسد رمق من حياة, تكفل الاستيراد العشوائي بواسطة جحافل المستوردين لأي شيء وكل شيء من العالم وفي أي وقت وبترخيص من وزارة الصناعة والتجارة الخارجية بالقضاء عليه. فعايشنا المصريين يأكلون الثوم والبصل والفول والعدس المستورد ولا حول ولا قوة إلا بالله. لمزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم