من أخطر خطايا المرحلة الانتقالية ذلك الفصل الجائر بين مسار استكمال الثورة وبين مسار التحول الديمقراطي, مع ان الأصل في تكاملهما, والخاسر الأول للأسف يكون الوطن. بل وتزداد الخسارة في ظل ما يواجهه كل مسار من تحديات رئيسية. في المسار الاول: تم اختزال الثورة في مبدأ الاعتصام السلمي, وهو علي اهميته لا يعكس بمفرده اتساع نطاق العمل الثوري كفكرة وفلسفة وأدوات وروح سارية تدفع الي التغيير الحضاري الشامل المأمول, وهنا يكون التحدي الاكبر كيف نواجه محاولات تجزئة وتشويه الثورة. في المسار الثاني: يعيق الخوف من الاسلاميين عملية بناء مؤسسات الديمقراطية بمعدل أسرع مما شهدناه وبيسر وسلاسة اوضح مما لمسناه, وهنا يكون التحدي كيف نواجه هواجسنا التي قد تضر بالتحول الديمقراطي. اولا: فيما يخص المسار الثوري, فقد شهد سلسلة من الاختزالات قلصت من قدرة الثورة علي تفجير طاقات التغيير في جميع المجالات. اندلعت ثورة25 يناير لتحقيق أهداف كبري كلية, واشتركت فيها طوائف الشعب المصري بدرجات متفاوتة, وابتكرت ادوات حركة وضغط متنوعة. الا أنه بالتدريج بدأت عملية تجزئة وتفتيت هذا المشهد الثوري العظيم والنادر. 1 تراجعت الأهداف الكبري لبناء النظام الجديد: حرية, كرامة, عيش, عدالة اجتماعية للخلف امام مطالب هدم النظام القديم الذي تقاعس المجلس العسكري عن تنفيذها, وأضطرت المجموعات الثورية الي الضغط بإستمرار من خلال المليونيات واحيانا بالاعتصام من اجل تحقيق مطالب جزئية ولكنها ضرورية مثل التطهير ومنع المحاكمات العسكرية وصولا مؤخرا الي الموقف الرافض من حكومة الجنزوري. 2 تفككت علاقة الثوار بالظهير المجتمعي للثورة الذي ناصرها في ايامها الاولي, كما ظهر انفصال متزايد بين القوي السياسية التي اتجهت الي آليات السياسة وبين القوي الثورية التي تمسكت بالحركة في الشارع, وبذلك تفكك التحالف الثوري العريض وتشرذمت قواه. 3 بدلا من ان يكون الميدان رمزا لروح ثورية تسري في عموم المصريين في ميادين العمل المختلفة تحول إلي مكان للاحتجاج فقط, واصبح الاعتصام الاداة الاولي- ومؤخرا الوحيدة- للضغط الثوري علي السلطة, ذلك بالرغم من تنوع ادوات الحراك الثوري ما بين الوقفات والمسيرات والمظاهرات والمليونيات. وفي المقابل فإنه أمام إصرار بعض القوي الثورية علي آلية الاعتصام للإبقاء علي الميدان كساحة رئيسية لصنع القرار السياسي. وبدأ مسلسل دفع الحركة الثورية بعيدا عن سلميتها من خلال تهيئة البيئة الحاضنة للعنف. بدءا بأحداث البالون ووصولا الي أحداث قصر العيني, فإنه في كل مرة تبدأ شرارة الاحتكاك صغيرة وبدلا من التحرك سريعا لإحتوائها يتم التباطؤ والمماطلة في حسم المشكلة: سواء علي مستوي معالجة سبب الاحتجاج, او الحوار مع المتظاهرين, او حتي مواجهة أعمال العنف بتفعيل دولة القانون. وتكون النتيجة إشتعال الازمة سريعا, وإنفتاح الساحة أمام إندساس بعض البلطجية والمأجورين, فيرتبك المشهد حين يختلط البلطجي بالثوري, ويتم تلويث صورة الثورة الايجابية النقية. وبذلك تواجه الثورة في المرحلة الانتقالية معضلة مزدوجة: الاختزال والتشرذم من داخلها, والتشويه والشيطنة من خارجها. ثانيا: بالنسبة لمسار التحول الديمقراطي, فقد كسرت الثورة المصرية حاجز الخوف من المستبدين, إلا إنها لم تنجح في تحطيم حاجز الخوف من الإسلاميين. فقد كشفت الثورة عن اسلاموفبيا كامنة في عقول دوائر من النخب والطبقة الوسطي. ولطالما ربطنا بين التخوف من الإسلام وبين الغرب غير منتبهين الي مخاوف مشابهة لدينا, انعكست مؤخرا بوضوح في القلق العميق من صعود الإسلاميين. وكأن الفزاعة التي غذتها النظم العربية واحتضنتها النظم الغربية لعقود طويلة أضحت متجذرة بالفعل, بحيث هيمنت الصورة السلبية عن التيارات الإسلامية, وتم التعامل معها ككتلة واحدة مصمتة لا تعبر إلا عن التطرف والرجعية والانتهازية والازدواجية وفرض الرأي ونفي الآخر, وكثيرا ما يتم صم الآذان عن الخطابات الوسطية المعتدلة المرسلة من داخلها علي كثرتها, في مقابل تسليط الضوء علي الأطروحات المتشددة فقط علي قلتها. وكما كانت هذه الأحكام المسبقة عائقا كبيرا أمام بناء علاقات ايجابية بين العالم الاسلامي والغرب, فإنها تعد تحديا كبيرا امام بناء الحد الأدني من التوافق السياسي اللازم للتحول الديمقراطي في مصر. اندهشت من الحالة الذهنية والنفسية التي دفعتنا اليها غالبية الدوائر الإعلامية والسياسية في تعاملها مع نتائج المرحلة الأولي والثانية من الانتخابات, فهي تدفعنا الي الشك والقلق والتوجس والريبة, ذلك بدلا من التعامل الايجابي مع الانتخابات التي مهما ظهر بها من مخالفات تظل هي الأولي من نوعها منذ أكثر من ستين عاما من حيث الشفافية والحرية والمصداقية والنزاهة. وتجلت الاسلاموفوبيا المعيقة للعمل الديمقراطي في عدة عناصر: 1) مقولة الشعب غير واع مضلل وغالبيته تعاني من الأمية والفقر, وبالتالي من السهل خداعه سواء بإسم الدين او بالمال, وانطلاقا من هذه المقدمة يتم التهوين من دور صندوق الانتخابات, لأن البيئة الصالحة للديمقراطية لم تتوفر بعد. 3) استهداف الاسلاميين دون غيرهم من القوي السياسية عند الفصل بين الثورة والبرلمان. فقد أعتبر تمسك الاحزاب الاسلامية بالانتخابات خروجا علي خط الثورة, ودفاعها عن المسار الانتخابي انتهازية. الا ان القول بأن التحرير ثار لكي يجني الإسلاميون المكسب يغفل الترابط العضوي بين المسارين الثوري والسياسي. فلولا التحرير ما كانت الانتخابات او الاعلان عن توقيت تسليم السلطة الي المدنيين, ثم أن التحول الديمقراطي هو احد أهم أهداف الثورة والضامن لتحقق غاياتها الكبري الأخري. فإذا كان الثوار في التحرير لم يفوزوا انتخابيا بالقدر المطلوب فإنهم نجحوا في خدمة الثورة كفكرة ورؤية وطموح. إن الثورة اشمل من الميدان, والديمقراطية اكبر من مخاوفنا, فلابد من الانتباه إلي مخاطر تشويه وإجتزاء الثورة كمعني ومشروع حضاري شامل, وأن نترك الفرصة للممارسة الديمقراطية لكي تقهر هواجسنا, وإلا سيدفع الوطن الثمن