ما أشدَّ بؤس من لم يُوفق لقضاء حوائج الناس، أو سعى في تعطيلها، أو إنفاذ حوائج معارفه دون الأحق بها. وما أعظمَ قدر مَنْ مسح بعمله دموع يتامى، أو أحنى على مسنين وأرامل، أو أعان أصحاب حاجات وأعذار، ولسان حاله يلهيج بدعاء الفاروق عمر رضي الله عنه :"اللهم اجعل الفضل عند خيارنا؛ لعلهم يعودون به على ذوي الحاجة منا". في هذه الآونة العصيبة التي تمر بها الأمة نحن في أمسِّ الحاجة إلى مليونية لرفع المعاناة عن الشعب.. مليونية إعانة للفقير والمسكين والمريض وذي الحاجة، والذي لا يجد عملا أو زواجًا أو سكنًا أو عيشا كريمًا..مليونية لنصرة المظلوم، وقضاء الحاجات، وسداد الديون، ورفع البلاء، ومحاربة الغلاء، وتيسير الحاجات.. مليونية لفتح طاقات الأمل، وإدخال البهجة والسرور في النفوس والبيوت، وإثابة المُجدين، وتشجيع العاملين، وتولية الأكفاء المخلصين..مليونية الاحتفال بالنفوس السليمة، والبيوت العفيفة، والشوارع النظيفة، والمصانع والمزارع و"الورش" العاملة. مليونية محاربة تعطيل مصالح المواطنين، والقضاء على الفساد والانحراف والاستغلال، وإنصاف الطبقات الكادحة في المجتمع..مليونية إقرار تشريعات، وبدء مشروعات، ومد العون إلى المُضطهدين في فلسطين وسوريا والصومال وبورما، وغيرها من دول الأمة، وشعوبها المُتعبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً, فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ".(رواه الشيخان). التفاؤل والصلاة في هذا الصدد، ينبغي أن نستعين بالله، وأن نتسلح بالتفاؤل، وألا يصرفنا التطير عن قضاء مصلحة بشرية. عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو. قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ : اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ". (صححه الألباني في الصحيحة). ولهذا الغرض شُرعت في الإسلام "صلاة الحاجة"..عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى أَوْفَى الأَسْلَمِىِّ قَالَ:خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلاَمَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ أَسْأَلُكَ أَلاَّ تَدَعَ لي ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ وَلاَ هَمًّا إِلاَّ فَرَّجْتَهُ وَلاَ حَاجَةً هي لَكَ رِضًا إِلاَّ قَضَيْتَهَا لي ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مَا شَاءَ فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ". (أخرجه ابن ماجة، والتِّرْمِذِيّ). معاناة العالم قبل الإسلام كان العرب قبل الإسلام يعيشون حياة سلب ونهب وجهل وعبودية وشرك وعبادة للأوثان، وكان من صفاتهم المذمومة العصبية التي كانت تقودهم إلى حروب مستعرة فيما بينهم لأتفه الأسباب، ومن أشهر حروبهم : داحس والغبراء، ويوم بعاث. كما تفشت فيهم أدواء أخلاقية كشرب الخمر والميسر والرِّبَا، وكان للزِّنا صور بشعة فيما بينهم، وتصف أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ذلك فتبين (في صحيح البخاري) أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: ثلاثة منها تدور على الزنا والدعارة، وواحد فقط هو الزواج الشرعي؛ فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم، هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم. كما انتشرت بين العرب قبل الإسلام عادة من أشد العادات قسوة، وهي وأد البنات، أي دفن البنت حيةً، خشية الفقر، أو خوف العار، أو بسبب اختلاف اللون (كأن تكون سوداء). ولم يقل حال العالم قبل الإسلام سوءًا عن حال العرب، فهذه أوروبا -كما ذكر المؤرخ الفرنسي رينو- : "طفحت في ذلك الزمان بالعيوب والآثام، وهربت من النظافة، والعناية بالإنسان والمكان، وزخرت بالجهل والفوضى والتأخر، وشيوع الظلم والاضطهاد، وفشت فيها الأمية. وكان الرجل إذا قامر فخسر ماله، يقامر على امرأته، وقد يخسرها فيأخذها الفائز! وسط هذا الرُكام من الأوضاع العربية والعالمية البئيسة، بزغ نور الإسلام فرفع المعاناة عن العرب والبشرية، وجعل ذلك من فرائض الدين وأركانه، بتشريع الزكاة التي هي من أركان الإسلام الخمسة، قال تعالى :"وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ".(البقرة 43 ). وتدرجت فيه أوجه هذه العبادة في درجات العمل الصالح من الفرائض إلى السنن المؤكدة إلى المندوبة أو النوافل التي رفع الله قدرها بعلو مرتبة صاحبها. قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".(الحج :77). وصايا الرسول دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة إلى قضاء حوائج الناس، ورفع الملمات عنهم. فعن ابن عمر رضي الله عنهما- :"أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال : أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعُهم للناس وأحبُّ الأعمالِ إلى الله سُرُورٌ تُدْخِلُه على مسلم أو تَكْشِفُ عنه كُرْبَةً أو تَقْضِى عنه دَيْناً أو تَطْرُدُ عنه جُوعاً، ولأَنْ أمشىَ مع أخي المسلمِ في حاجةٍ أحبُّ إِلَىَّ من أن أعتكفَ في هذا المسجدِ شهرًا، ومن كفَّ غضبَه سترَ اللهُ عورتَه، ومن كَظَمَ غَيْظَه، ولو شاء أن يُمْضِيَه أَمْضاه ملأ اللهُ قلبَه رِضًا يومَ القيامةِ، ومن مشى مع أخيه المسلمِ في حاجةٍ حتى تتهيأَ له أثبتَ اللهُ قدمَه يومَ تَزِلُّ الأقدامُ، وإنَّ سُوءَ الخُلُق لَيُفْسِد العملَ كما يُفْسِدُ الخلُّ". (صححه الألباني - الأحاديث الصحيحة). وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم، ومنا المفطر، فنزلنا في يوم حارٍّ أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصُّوام، وقام المفطرون، وضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذهب المفطرون بالأجر". كما قال -صلى الله عليه وسلم- :"خير الناس أنفعهم للناس". (حسنه الألباني). وثبت عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد من العمر".(رواه الطبراني، وحسنه الألباني).. والمصرع: مكان الموت، فيقي الله من يحسن إلى الناس بقضاء حوائجهم شر الموت في مكان سيء أو هيئة سيئة، أو ميتة سيئة. الرسول القدوة في سعيه لقضاء حوائج الناس، خاصة الضعفاء والأيتام والأرامل، ورد عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً ، فَقَالَ : يَا أُمَّ فُلاَنٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْت، حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ ، فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا. (أخرجه مسلم). والسعي في قضاء حوائج الناس من الشفاعة الحسنة التي أمرنا الله تعالى بها فقال :"مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (النساء:85). عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى ، عَنْ أَبِيهِ ، قال:كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا جَاءَهُ السَّائِلُ، أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ. قال : اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، ويقْضِي الله عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ".(أخرجه البخاري، ومسلم). وكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ :"إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ لِلنَّاسِ وُجُوهٌ يَرْفَعُونَ حَوَائِجَ النَّاسِ إِلَيْهِمْ ؛ فَأَكْرِمْ وُجُوهَ النَّاسِ، فَبِحَسْبِ الْمُسْلِمِ الضَّعِيفِ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ يُنْصَفَ فِي الْحُكْمِ، وَالْقِسْمَةِ". (ابن عبد البر : المجالسة، وجواهر العلم). وعنْ أَبِي الْحَسَنِ ، قَالَ : قَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ لِمُعَاوِيَةَ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:مَا مِنْ إِمَامٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ، وَالْخَلَّةِ، وَالْمَسْكَنَةِ، إِلاَّ أَغْلَقَ اللهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ، وَحَاجَتِهِ، وَمَسْكَنَتِهِ. فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلاً عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ". (أخرجه أحمد). وقال مجاهد: صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني. وكان كثير من التابعين يطوف على نساء الحي، وعجائزهن كل يوم، فيشتري لهن حوائجهن، وما يصلح شأنهن. [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد