هويدا صالح قالت: كنت أتمني أن أكون شجرة في حياة أخري غير هذه قالتها, ثم نظرت بعيدا حيث السحب تتجمع, وتنذر بسقوط أمطار, لمس يدها بإصبعه, فعادت بوجهها إليه, قال لها: وأنا أتمني أن أكون أرضا لجذور تلك الشجرة, تحتضنها وتغذيها وترويها, ابتسمت ولم تعلق فأشرق وجهه فجأة وأخرج هاتفه المحمول, أجري مكالمة غامضة, ورغم أنها كانت منتبهة له تماما,فإنها لم تفهم مع من يتحدث, ثم وقف فجأة وأمسك بيدها وشدها, تعجبت منه وحاولت أن تجلسه, لكنه أصر علي أن تقوم معه لم تطاوعه, وتقوم من مكانها, بل طاوعت حدسها الذي أسلمته خطواتها منذ تركت حياتها هناك وراءها ولم تعد تفكر في شيء. لم تعد معنية كثيرا بالتخطيط للمستقبل, وترتيب الحياة وفق منطقها, قالت: كفاني ترتيبا ومعاناة سأعيش حياتي كما يتراءي. سنون عمري تتفلت مني. أخذت قرارها واتجهت تتبع حدسها إلي تلك المدينة الراقدة علي المتوسط والتي تشعر ساكنيها بأن الحياة توقفت عندهم, لم يكن في ذهنها حين اتخذت قرارها وحصلت علي إجازة طويلة من عملها أنها قد تلتقيه هنا بعد كل هذه السنين. فرقتهما الحياة بعد قصة حب عميقة, لم تكن بقادرة علي أن تترك أمها العجوز وحيدة, وتسافر معه, ظلت حائرة أياما كثيرة قبل أن تخبره بأنها لن تغادر معه تاركة أمها دون أحد يعولها. حاول إقناعها بأنه سيوفر لأمها رعاية جيدة في دار المسنين, يمكنها أن تسافر معه دون خوف عليها, لكن قلبها لم يطاوعها علي ذلك, ذهبت تودعه في المطار, وتخبره بأنها ستنتظره كل عام ليقضي معها بضعة أسابيع كما اتفقا, قطع لها كل الوعود اللازمة, وغادر لعامين متتالين حافظ علي وعده, لكنه في العام الثالث اتصل بها, ليعتذر عن عدم حضوره في موعده السنوي بحجة العمل, ساعتها جلست أمام المائدة التي أعدتها وأشعلت الشموع, حتما أشعلتها, فكل قصص الحب فيها شموع تحترق ودموع في الانتظار, راحت تتذكر كل لحظات العلاقة الميئوس منها, مسحت دموعها وقررت ألا تسمح لليأس أن يتملكها, تباعدت اتصالاته الهاتفية وفي كل مرة حجة جديدة, وأتي العام التالي ولم يأت أيضا صار كل ما يربطها به بضع رسائل إلكترونية علي فترات متباعدة, وورود افتراضية وشموع, لم تعد تعرف كم من السنوات مرت وهي في انتظاره, ماتت أمها ولم يعد لها أحد, انهمكت تماما في عملها, وضعت كل طاقتها فيه, تميزت كثيرا وحصلت علي تقديرات رؤسائها,لكنها شعرت بأنها تعيش في حياة جافة معلبة, فلم يعد لها أحد سوي أصص الزرع التي تتراص علي الشرفة والأحاديث الكثيرة التي تتبادلها مع قطتها ونباتاتها, رفضت كل محاولات التقرب منها, لم تجد في روحها طاقة لعلاقة جديدة تترك ندبة في عمق قلبها, جف جسدها وطالت حسرتها أمام المرآة وهي تري الشعيرات البيضاء تغزو رأسها, والتجاعيد تبين حول عينيها. شعرت بأن الوقت قد فات للتفكير في رجل آخر, فقررت أن تعيد البهجة لروحها, قالت ذات حماس: لأخرج بعيدا عن مدينتي القاتلة, لأعيش بهجة روحي بطريقتي, ليس شرطا أن يكون هناك رجل حتي أعيش, سأغادر وانتقي مدينة أغسل فيها جروح روحي, ثم لنري. حين نزلت المدينة لفت نظرها ذلك اللون الأبيض الذي يغلب علي مبانيها, المباني كلها متشابهة وبينها تنساق مدهش. لا يعلو المنزل علي طابقين, الحدائق تفصل بين بناية وأخري. والنوارس تملأ فضاء المدينة تطير بين الأشجار العالية وسفن الميناء, هي مدينة ساحلية طالما حلما سويا أن يعيشا فيها, لذا وضعتها علي مخططها حين بدأت الإعداد للرحلة, ثمة شيء واحد حاولت تجنبه, حاولت جاهدة أن تعاود الاتصال به بعد مرور كل هذه السنين, لم يعد يناسبها أن يعود اليها ويجد روحها وقد اكلها الجفاف, في سيارة الأجرة طلبت من السائق أن يسير من طريق البحر, هكذا كانت تطلق علي الشارع الممتد بطول المدينة والذي يرقد البحر علي جانبه, كان للشارع اسم آخر لا تذكره, فقط تذكر طريق البحر الذي أطلقته عليه منذ ثلاث عشرة سنة, جاءآ سويا لهذه المدينة في بعثة من المدرسة الفندقية التي كانا يدرسان فيها, أرسلت المدرسة بعثة تتكون من عشرة طلاب وطالبات كانت هي وهو من بينهما جاءوا, ليتدربوا علي السياحة الفندقية التي اشتهرت بها المدينة. ارتبطا كثيرا بالمكان وقررا أن يعيشا فيه يوما. سألها السائق: إلي أي فندق تريد الذهاب؟, فقالت: الليدو وقلبها يدق, ففي هذا الفندق قضيا سويا أيام البعثة, وفي حديقته الخلفية داوما علي تناول الإفطار بين صحاف الورد وشجيرات الياسمين, حلمت دوما أن تعيش في بيت تلفه شجيرات الياسمين, وتسميه بيت الياسمين, وهو كان يضحك ويقول لها: ألن يكون للبيت عنوان غير بيت الياسمين في المطلق هكذا؟ العمال المتأنقون علي باب الفندق يلمحون التاكسي فيدركون أن ثمة زائرا قادما, فيستعدون بمد رقابهم, ويتطلعون ناحيتها, من بعيد حاولت التعرف علي وجوههم وجوه شابه لم ترها من قبل وياقات مشدودة وابتسامات سياحية. ترجلت من التاكسي وتركت لهم الحقائب يحملونها, وسارت وقلبها يدق, فيغطي علي أصوات الموسيقي الناعمة التي تأتيها من ساحة الفندق. استقبلتها الفتاة التي تقف وراء الكاونتر في الاستقبال بابتسامة تعرفها تماما, وطالما تدربت عليها وهي بعد طالبة, أخذت أوراقها وسجلت البيانات وقالت لها انها ستنزلها في أجمل جناح علي البحر, ابتسمت للفتاة المتحمسة ولم تعلق. صعدت إلي جناحها ورتبت حقائبها, خرجت للشرفة تشاهد البحر الذي أتاها كثيرا في أحلامها. في المساء تزينت وقررت النزول لتناول العشاء, ثم الخروج للبحر. حين اقتربت من باب المطعم لمحت علي يسار الكاونتر رجلا يعنف موظف الاستقبال بحركات تبدو غاضبة رغم أن الصوت لا يصلها واضحا. اتجهت إليهما بكل جسدها, فإذا به حبيبها يقف بقامة منتصبة وأناقة واضحة, هو لا أحد غيره يقف علي بعد أمتار منها. شعره الفضي يلمع تحت أضواء النجفة التي تتوسط البهو. اتجهت إليه وقلبها مثل طبل عظيم يدق في جوفها, وقفت خلفه تماما لمست كتفه بأصابعها المرتعشة وهمست: - أحمد.. استدار بجسده بسرعة وهمس: - معقول؟ ليلي؟! ابتلعت ريقها وقالت: - نعم أنا هي. كيفك وكيف الأيام معك؟ سلم عليها وجلسا يتحدثان. حكي لها عن نجاحه في عمله في السياحة, والدراسات المتقدمة التي درسها في السياحة البيئية وغيرها حتي صار خبيرا دوليا, وقد تعاقد معه هذا الفندق ليصبح مدير المشروعات السياحية فيه, وهي لا تعرف كيف لفندق أن يكون لديه مشروعات سياحية, كل ما تعرفه أنها تمنت أن ترتمي في حضنه, وتبكي علي كتفيه, لكنها تمالكت أعصابها وجلست تحكي له عن عملها, وكيف أنها حققت نجاحات هي الأخري, وموت والدتها ووحدتها, وقرار الإجازة المفاجئ. أخبرها أنه تزوج فتاة نزلت في الفندق مع والديها, وأنجب منها ولدين وبنتا في بطن واحدة, وكيف أنه يعمل بجد ليؤمن لهم مستقبلهم, وكيف أنه رتب لصغاره الحياة, فبعد تخرجهم سيجد كل منهم شقة باسمه وحسابا في البنك وحياة آمنة. طرأ علي بالها أن تقول له: هل تحب زوجتك؟ لكنها لم تستطع, لكنه تطوع بأن أخبرها بأن زواجه كان زواجا تقليديا, ولكنه لم يفته أن يخبرها بأن زوجته طيبة وحنون, وانها تعشقه بشدة, لم تعلق, فقط كانت تستمع إليه وتحاول أن تبدو حيادية ولا يبين عليها أي انفعال وبعد أن طالت ثرثرته وطال صمتها, حدق في عينيها طويلا ثم قال لها بصوت يذيب قلبها: مازلت أحبك, وكل من عرفت من النساء كنت أبحث عن بعض منك فيهن. حتي زوجتي ما لفت نظري إليها هو قرب الشبه بينكما, ثم قال بصوت عميق وحاسم: لن اتركك بعد أن وجدتك. تنهدت بحرقة وحاولت الهرب من نظراته التي حملها كل معاني العشق. قالت: لا تظن أن الزمن بهذه الرأفة فيتركك تجمع بين كل احلامك. الحياة لا تعطينا كل ما نريد ياعزيزي. تعجب منها وقال: هل هناك رجل آخر في حياتك؟ قالت بهدوء! - لم يكن هناك رجل آخر يوما غيرك. - إذن لماذا ترفضين الفرصة التي وهبتها لك الحياة؟ - لأن الحياة ليست بهذه الروعة التي تتخيل. قالت جملتها واجلسته ثانية. واخبرته أنها لن تذهب معه إلا بعد أن تعرف إلي أين هما ذاهبان؟ أخبرها أنه سيتزوجها الآن ولن يجعلها تغيب عن ناظريه. كانت تتوقع ان كلاما مثل هذا سيسعدها ويجعلها تنتشي فرحا. لكنها احستها كلمات عادية. ظلت سنوات تحمل ألم الفقد داخلها مما عطل كل حياتها نظرت البعيد وراحت تراجع حياتها المستقلة احست أنها صنعت حياة عاشت فيها وحياة أخري كانت تظهر وتختفي, الآن عليها أن تختار ما بين الحقيقي والخيال لا تعرف لماذا اختارت الحقيقي وقالت بحسم: لا ياعزيزي لن ينفع أن نعود يوما,الحياة لا تعود للوراء يوما. قالتها ولم تنظر باتجاهه وراحت تذكر نفسها أنها في اجازة وستعود لحياتها التي رتبتها جيدا. وفق تصوراتها الخاصة هزت رأسها وقالت بحسم: عزيزي الاموات لا يعودون صدقني, هذا يحدث في السينما فقط وليس في الحياة. لم يكن من المفهوم لها لماذا اتخذت هذا القرار لكنها شعرت براحة لا نهاية لها, وكأنها جاءت لتواجه خيباتها هنا في ذات المدينة التي نمت فيها قصة عشقها. لم يهمها كيف يشعر.. هي عاشت بالخذلان سنوات كثيرة شعورها بالتخلي أفسد عليها حياتها. كأنها كانت بحاجة لتواجه خسارتها وجها لوجه. بحاجة لفرصة أخيرة تشعر فيها بالانعتاق, لم تفكر طويلا كيف سيستقبل قرارها, فقط اتخذت القرار وجلست بضعة أيام تستلقي طوال النهار علي شاطئ البحر تصطحب معها سلة طعام وشراب وجهازا صغيرا تنبعث منه الاغاني التي تحب وتمضي الوقت في صفاء وتأمل وحين تزحف الظلمة علي الشاطئ تجمع حاجياتها وتعود. بعد انتهاء إجازتها قررت الرحيل تيقنت أنها لم يكن يناسبها أن تعيش علي هامش حياته هو وأسرته, أن قرارها كان حكيما تماما, تجنبت أن تراه حين وقفت امام موظفة الاستقبال لتتم إجراءات الرحيل, قاومت رغبة ان تسأل عنه, نادت علي العامل أن يحمل حقائبها ويضعها في التاكسي وخرجت لا تقدر علي أن تحدد بدقة هل هي مستريحة تماما لما فعلته أم ان الجفاف سيواصل التهام روحها؟ كنت أتمني أن أكون قمرا يلفك بنوره الناعم, لكن القمر يغيب, وكنت اتمني أن أكون شمسا ترسل ضياءها لينير صفحة وجهك لكن الشمس ايضا تغيب, وايضا تمنيت أن أكون ماء ترتوين منه لكن الماء يجف أو رياحا تداعب اغصانك واوراقك لكن الرياح قد تتحرك من حولك, لذا تمنيت أن أكون ارضا وترابا تستريح فيه جذورك المتعبة. عنيفة تخيل كل المحيطين بهما أنهما قد يموتان إن افترقا.