لم يعد بإمكان الاقتصادي العالمي المنهار, والحكومات الغربية المثقلة بالديون, ان تستمر في تجاهلها للإقتصاد الموازي الكامن فيما يعرف بالملاذات الضريبية, وهي تلك الجزر الصغيرة التي تمر من خلالها اكثر من نصف تجارة العالم وأكثر من نصف جميع الأصول المصرفية ونحو ثلث الاستثمارات الأجنبية التي تضخها الشركات متعددة الجنسيات, حيث يتم ضخها عبر شركات أعالي البحار أو الاوفشور الوهمية التي تلتف علي قوانين الضرائب في الدول الديمقراطية وتتحرك بعيدا عن اي شكل من اشكال المراقبة المالية, وهي حسب تقدير أحد كبري المؤسسات البحثية شبكة العدالة الضريبية, تضم ثروات قد تصل الي32 تريليون دولار, هذا دون حساب الاصول العقارية واليخوت وغيرها من اصول ثروات أقل من عشرة ملايين شخص, مخبئة في تلك الملاذات, وذلك من اصل ما يقدر بنحو123 تريليون دولار هي حجم ثروات العالم. انه اقتصاد الاوفشور الموازي للاقتصاد العالمي, حيث تعمل نحو60 جنة ضريبية آمنة, معظمها في منطقة الكاريبي, علي المساهمة في النهب الممنهج لثروات شعوب العالم خاصة شعوب العالم الثالث, عبر شبكة شيطانية من الفساد المالي وعمليات غسيل الاموال والتهرب الضريبي, الحفاظ علي سرية المعاملات المالية لمن يتسبب في انهاك الاقتصادي العالمي, حيث تشير تقديرات منظمة الشفافية الدولية الي ان تلك المعاملات الفاسدة تسببت في خسارة وصلت إلي نحو ستة تريليونا دولار خلال العقد الماضي. ومع ظهور نتائج اكبر تحقيق صحفي مشترك حول عن عالم الملاذات الضريبية, مع بداية هذا الشهر, تكشف للعالم الكثير عن خفايا ظلت لثلاثة عقود, عالم سري غامض, لا يمكن الخروج منه بمعلومات واضحة, حيث اكد التحقيق الذي شارك به86 صحيا علي مدار خمسة عشر شهرا, برعاية الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين, تورط الالاف من تجار السلاح, ومسؤولين حكوميين غربيين, ورجال أعمال, ومشاهير واقطاب في عالم المال, بل وبنوك اوروبية كبري, بتأسيس120 الف شركة وهمية وحسابات اوفشور والقيام بصفقات مشبوهة في170 دولة وتورط140 شخصا في ايداع ثرواتهم بملاذات ضريبية, مع تورط ثلاث بنوك عالمية في تسهيل التهرب الضريبي لعدد كبير من الشخصيات السياسية والآلاف من الاثرياء حول العالم, وتعتبر نتائج هذا التحقيق اكبر مخزون من المعلومات حول شركات الاوفشور, حصلت عليه وسائل الاعلام في تاريخها كله. كان لنتائج هذا التحقيق الهائل, ويضم2.5 مليون ملف, والذي نشرته في وقت واحد عدة صحف غربية منها الجارديان البريطانية, تداعيات كبيرة خاصة مع ذكرها, وقائع التهرب الضريبي لعدد من الشخصيات البارزة المقربة من دوائر صنع القرار, وخاصة في فرنسا, حيث كشف التحقيق عن تورط المدير السابق للحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي فرانسوا اولاند الذي ثبت من خلال التحقيق انه يملك شركتين في احدي جزر الملاذات الضريبية في الكاريبي, مما قد يهدد حكومة اولاند, كما كانت الصدمة الكبري في فرنسا أيضا من تورط وزير الميزانية السابق جيروم كاهوزاك, في هذه المتاهة المالية, وضمت القائمة أيضا رئيس اذربيجان ونائب رئيس البرلمان المنغولي وايضا وزير المالية, ومساعدة رئيس الوزراء التايلاندي, وابنة الديكتاتور الفيلبيني السابق فرديناند ماركوس, وزوجة رجل اعمال روسي مقرب من فلاديمير بوتين, اضافة الي افراد عائلة اردنية نافذة وشخص من الاسرة الحاكمة الكويتية واثنين من ابرز رجال الاعمال السعوديين, بالاضافة الي حوالي اربعة الاف امريكي, اشهر الملياردير الامريكي راج راجرتنام الذي ادين عام2011 في اكبر فضيحة مالية في التاريخ الامريكي, ومنهم ايضا بول بلزيران أحد أبرز عمالقة وول ستريت شارع المال الأمريكي الشهير. كانت وثائق لاتحاد الصحفيين الدولي للتحريات المالية, قد نشرت في وقت سابق عن وجود تحقيقات أولية تشير إلي تعامل كل من نجلي الرئيس السابق حسني مبارك, مع بعض شركات الأوفشور في قبرص وجزر فيرجن البريطانية. بعد الحرب العالمية الثانية كانت سويسرا هي الملاذ الامن الابرز للأموال الأثرياء الهاربين من الاضطرابات في روسيا والمانيا وامريكا الجنوبية ودول العالم الثالث, وتلتها امارة ليختنشتاين, ولكن خلال الثلاثة عقود الماضية, تزايد عدد هذه الملاذات ليصل حسب بعض التقديرات لاكثر من سبعين ملاذ آمن من الملاحقة الضريبية, وهي ما بات يعرف بجزر الكاريبي, ومن ابرزهم جزر فيرجن البريطانية, وبليز وجزر كايمان وهي جزر تابعة للتاج البرطاني, ثم هناك قبرص وجزر مارشال, وجزر الباهاما, بعض هذه الجزر تمكنت خلال جيل واحد فقط, بعد ان قررت ان لا تحمل تقريبا اي ضرائب علي الاموال التي تدخلها, وان تضمن لاصحاب الاصول المالية عدم الكشف عن هويتهم, التحول من جزر فقيرة مهملة, الي أكثر الجزر ثراءا في العالم, خاصة جزر فيرجن التي يبلغ عدد سكانها31 ألف شخص فقط, وتأوي حوالي نصف مليون شركة وهمية بنظام الاوفشور. وتعود جذور جزر الكاريبي, حسب ما جاء في كتاب الملاذات الضريبية والرجال الذين سرقوا العالم لنيكولاس شاكسون, وهو واحد من اهم الكتب التي تناولت هذه المتاهة بدقة كبيرة, الي فترة الجريمة المنظمة في الولاياتالمتحدة, حيث سعي آل كابون عندما ادين بتهمة التهرب الضريبي عام1931 إلي البحث عن وسيلة لاخراج أموال عصابته خارج الولاياتالمتحدة وغسلها ثم اعادتها مرة اخري الي الولاياتالمتحدة, فكان ان نقل امواله الي جزر الباهاما, المستعمرة البريطانية, وعندما انزعج سكان هذه الجزر من ممارسات رجال العصابات, انتقلوا إلي جزر أقل ازعاجا وهي جزر الكايمان, ثم انتقلت الممارسات الي بقية جزر الكاريبي.