هل يمكن لأمة, أية أمة, أن تنهض من عثرتها بدون أن يكون لديها منظومة قيم راسخة تحدد الواجبات قبل الحقوق, وترسم المسئوليات وتضع العلامات علي الطريق؟ قولا واحدا لا, فالامم الناهضة لديها بروتوكول عمل مجتمعي واضح يعلمه الجميع صغارا وكبارا. تلك بديهية لا خلاف عليها, رأينا البدء بها من باب العبرة والتذكرة, فالذكري تنفع المؤمنين كما جاء في الذكر الحكيم. والعكس صحيح فإن غابت القيم او اختلت المعايير الناظمة لحركة الحياة يتعرض المجتمع ككل إلي حالة ارتباك وتراجع ثم خلل ثم فقدان القدرة علي الحركة السوية ثم الموات والخراب. وما نراه اليوم في مصر الآن هو أن جزءا كبيرا من أهلها ومؤسساتها ورموزها يعيشون حالة مكثفة من المراحل الثلاث الأولي من هذه السداسية السلوكية, وإن استمر الوضع علي ما هو عليه ولم يراجع المجتمع نفسه ويتخذ القرار الصائب, فمن الطبيعي أن ينزلق المجتمع إلي المراحل الثلاث التالية, وعندها لن يكون لأحد القدرة حتي لعزاء نفسه. سياسيا يفتقد القادة السياسيون من كل الأطياف تقريبا إلي آليات التحاور الطبيعي بين المختلفين في الرؤية, والانانية المفرطة هي السمة الغالبة, والحرص علي المصلحة الذاتية الضيقة سواء الحزبية أو الشخصية هي الأولي مقارنة بالمصلحة الوطنية العليا. وبينما تبرز الخبرة الإنسانية انه لابد أن يكون هناك فارق بين طريقة تفكير وسلوك الجماهير وطريقة تفكير وسلوك الرموز السياسية بما يسمح للرموز بالقيادة والتوجيه والتأثير في حركة الجماهير, فإن الحالة المصرية تسير معكوسة, فلا الكثير من الرموز لهم التأثير المطلوب علي الجماهير, ولا الجماهير نفسها استمر لديها الاقتناع الذاتي بأن تلك الرموز تملك القدرة علي الخروج بالوطن من وهدته الراهنة. وحين يتحول القائد إلي مقود, وحين يتحول المقود إلي زعيم عشوائي تصبح النتيجة المنطقية فوضي مركبة وعنف وخلل سلوكي بغيض. اجتماعيا وهو الأهم أن قطاعا كبيرا من المصريين يتصرفون باعتبار أن هذه الأيام هي نهاية التاريخ بالنسبة لهم, وإن لم يحصلوا علي كل ما يتمنوه في التو واللحظة, سواء كان حقا أو ظلما وبهتانا, فلن يحصلوا علي شئ غدا. والمسألة بالنسبة لهؤلاء هي نوع من التكويش والحصاد المر في لحظة زمنية يتصرف فيها الجميع أفرادا ومؤسسات باعتبار أن الحكومة ومؤسسات إنفاذ القانون هي مؤسسات عاجزة لا حول لها ولا قوة, وأن هناك حالة فراغ عام في المجتمع ككل أو في داخل كل مؤسسة أو هيئة يستقطب كل من يريد ملئه بالحسني أو بالسوء. يحدث ذلك بصورة جماعية نمطية متكررة كما هو الحال في الإضرابات العمالية والفئوية, التي تستغل لحظة احتياج الجمهور للخدمة التي يجيدون العمل بها, لتنظيم إضرابات أو اعتصامات للمطالبة بامتيازات وحقوق يصعب القول إنها غير شرعية, ولكن المؤكد أن لحظة المطالبة بهذه الحقوق ليست مناسبة بالمرة ونتائجها العكسية اكثر من أي فائدة قد تحققها هذه الاحتجاجات. والسؤال الذي يتبادر للذهن أليس لهؤلاء عقول يفكرون بها وبعض البصيرة للمستقبل؟ والمرجح أن للجميع عقول وبصائر وإن بدرجات مختلفة, لكن المؤكد أن الافتقاد إلي منظومة القيم هو السبب في تجاهل حقوق الناس والاكتفاء بالتكالب علي ما هو متوافر حتي يتم القضاء عليه قضاء مبرما, ولا يهم بعد ذلك حجم البكاء الذي سيتم سكبه لاحقا. إن افتقاد المجتمع للقدرة علي اتخاذ الخطوة المناسبة وفقا لطبيعة اللحظة الجارية, يقود حتما إلي استنزاف الموارد, وإلي التراجع في المكانة وإلي الاستدانة وإلي رهن إرادة الاجيال الجديدة إلي قوي خارجية لا تريد لهذا البلد خيرا من اي نوع, فهل هذا ما يريده المصريون لأنفسهم في المدي المنظور؟ لقد فقد قطاع كبير جدا من المصريين حسن التصرف بمعناه القيمي والسلوكي, وتحولت تصرفاتهم وسلوكياتهم إلي نوع من الوبال عليهم وعلي الآخرين من حولهم. وفي وقائع الأسبوع الماضي فقط ما يصلح لضرب جرس إنذار كبير جدا. ففي المجتمعات الطبيعية فإن وظيفة الطالب هي تحصيل العلم والمعرفة وإعداد نفسه ليكون مواطنا صالحا يفيد بلده ونفسه علي السواء. ولكن في مصر تحول بعض الطلاب إلي أساتذة وإداريين يصيغون اللوائح ويفرضون تعطيل العملية التعليمية لكي يثبتوا لأنفسهم أن الثورة ما زالت في الميدان أو في ساحة الجامعة بعد أن يتم تعطيلها وتخريبها. وفي هذه الحالة يفترض أن تكون المؤسسة التعليمية ممثلة بالوزير أو ممثله الخاص في صف ضبط العلاقة بين الطالب والاستاذ بما يلزم الاول باحترام الثاني وعلمه ومكانته والالتزام بالضوابط التي تضعها الادارة طالما انها متوافقة مع القانون والاعراف, ويلزم الثاني بحسن معاملة الطالب وحسن إعداده تعليميا وسلوكيا. أما ان تقف المؤسسة التعليمية في صف الفوضي وتطيح بالقانون والقيم عرض الحائط لكي تثبت انها مع الشباب الثائر, فهي بذلك لا تتخلي عن وظيفتها ودورها وحسب, بل تفرض قيما معوجة وتقدم المثل السييء علي الانحياز الأعمي لصالح شعارات جوفاء من شأنها أن تحرق البلاد بأسرع وسيلة ممكنة. لقد تحول بعض الطلاب إلي عصا غليظة تطيح بالعلم والعلماء تماما كالموظف محدود الموهبة والتافه بين قرنائه حين يطالب بأمور لا يستحقها ويعطي لنفسه الحق في ابتزاز قيادته وإهانة زملائه والتجاوزر في حقهم والإساءة إلي المؤسسة التي يعمل بها, وسرقة وثائقها ومستنداتها والعبث بها واختيار بعضها والتلاعب بها ونشرها علي الملأ لتصوير الامور علي عكس حقيقتها ولتوجيه الاهانة إلي من هم أكثر منه علما وخبرة وشرفا وعطاء, ثم بعد ذلك يتطاول علي اللوائح ويسعي إلي ابتزاز رؤسائه ويستحل لنفسه أموال السحت بطرق غير شريفة ويسعي بين زملائه بالنميمة والاكاذيب والمغالطات. وحين تنقلب القيم رأسا علي عقب, يصبح أمثال هؤلاء الحقراء كأبطال أشاوس في نظر المجتمع المريض والذي يزداد مرضا علي مرضه. إن تصحيح المعوج والفاسد بالحسم والقانون وعدم الخضوع للمبتزين والحقراء ومحبي السحت والمال الحرام هو المدخل الذي لا بديل عنه إن أردنا أن نحمي مصر من الخراب الذي ينتظرها علي ناصية لم تعد بعيدة, بل تقترب منا حثيثا ما دام قادتنا ورموزنا خائفون ومذعورن من هؤلاء المبتزين ذوي الصوت العالي والفكر الشيطاني. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب