علي الرغم من طوفان التحليلات السياسية والقانونية الذي طغي علي الإعلام المصري بعد الثوره فإن تراجع أو حتي غياب التفكير الاستراتيجي لدي الطبقة السياسية السائدة أضحي أمرا واضحا للعيان. فالجميع, إلا من رحم ربي, تورط في حرب عدمية أشبه بتلك التي وصفها لنا الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز بقوله حرب الكل ضد الكل. ولعل ما يميز هذه الحالة العبثية التي تسيطر علي المشهد السياسي المصري خلال العامين المنصرمين هو غياب القيم الأخلاقية والوطنية العليا التي ظلت دوما عنوانا للهوية المصرية الجامعة. لو لم يكن غريبا في ظل تداعي أركان الدولة المصرية وتآكل هيبتها في الداخل قبل الخارج أن تنفصل مصر عن محيطها الاستراتيجي الإقليمي تاركة المجال لقوي دولية منافسة أو طامعة في السيطرة والنفوذ للعبث في قضايا تمس الأمن القومي المصري بشكل مباشر. ويمكن أن نشير في هذا السياق إلي ثلاثة أحداث كبري اكتفت فيها مصر الثورة بموقف المشاهد والمتفرج, وكأن الأمر لا يعنيها في شيء: الحدث الأول: يتعلق بالتدخل الفرنسي والإفريقي في شمال مالي حيث أعاد أول رئيس مصري منتخب بعد ثورة25 يناير العظيمة نفس الخطاب السياسي التقليدي الذي لا يخرج عن مجرد الشجب والاستنكار, كما أنه تحت ضغط انفجار الأوضاع الأمنية في محافظات القناة لم يتمكن من حضور القمة الإفريقية في أديس أبابا. أما الحدث الثاني: فهو يتمثل في إعادة ترتيب الأوضاع في الصومال ووضعه من خلال خريطة طريق غربية علي باب الاستقرار السياسي و الأمني. وفي هذه الحالة مارست قوي إقليمية كبري مثل إثيوبيا و كينيا و أوغندا دورا أساسيا لا يمكن إنكاره. ويتمثل الحدث الثالث في التوصل إلي اتفاق أمني وسياسي بين دولتي السودان برعاية إفريقية في أديس أبابا, و هو ما يعمق من توجه حكومة جوبا نحو كل ما هو إفريقي و النفور من كل ما هو عربي إسلامي. اللافت للانتباه أن قوي إقليمية كبري مثل تركيا وجنوب إفريقيا استطاعت تحقيق قفزات كبري في التنمية المستدامة رغم ما تعانيه من صعوبات اجتماعية وسياسية كبري. ولذلك التحقت كل من الدولتين بأندية الكبار التي تمثل القادمين الجدد في النظام الدولي, وهو ما يعني حدوث تحول كبير في بنية النظام الدولي ليصبح أكثر تعددية وبعدا عن الهيمنة الغربية. لقد أضحت تركيا عضوا في مجموعة كيمتKIMT والتي تضم كوريا الجنوبية وإندونيسيا والمكسيك. أما جنوب إفريقيا فقد انضمت عام2011 إلي مجموعة البركسBRICS والتي تضم روسيا و الصين والهند و البرازيل باعتبارها القوي الاقتصادية الصاعدة في العالم. من المعلوم أن الاجتماع الخامس لقمة البركس والذي تحضره مصر من بين شهود آخرين يعقد لأول مرة في أرض إفريقية حيث من خلال استضافة جنوب إفريقيا له في27,26 مارس2013 تحت عنوان بركس وإفريقيا: الشراكة من أجل التكامل والتصنيع. وعلي الرغم من تباين الرؤي حول جدوي هذا التجمع بالنسبة لمستقبل التنمية في إفريقيا علي المدي الطويل, فإننا أمام تجمع اقتصادي كبير بكل المقاييس حيث تمثل دول البركس نحو34% من سكان العالم و تسهم بنحو خمس الناتج المحلي العالمي, كما أنها تمتلك أكبر حافظة احتياطي نقدي في العالم بمبلغ4.4 تريليون دولار. إن علي القيادة المصرية, حكومة ومعارضة, إدراك حقائق النظام الدولي الجديد الذي يعلي لغة المصالح وتبادل المنافع المادية,وتحقيق المكاسب الجيواستراتيجية. فما الذي يجمع بين دول مثل روسيا والهند والصين رغم أنها تعبر عن تباينات اقتصادية واستراتيجية حادة ؟. فالأسواق الإفريقية تشهد تنافسا حامي الوطيس بين هذه الدول. كما أن كلا منها يسعي إلي تحقيق مكاسب جيواستراتيجية علي حساب الآخر. ولكنها مرة أخري لغة المصالح. فهذه الدول مجتمعة بحاجة إلي نوع من التحالف السياسي والتنسيق بينها للتخلص من هيمنة الدول الغربية والمؤسسات المالية والنقدية المرتبطة بها مثل( البنك الدولي وصندوق النقد الدولي). لقد وجدت الصين في تجمع بركس منتدي مهما للتعبير عن مصالحها في تحدي مؤسسات النظام الدولي وهيمنة الغرب عليها, وهي فرصة لم تتح لها منذ مؤتمر باندونج عام1955 و الذي مثل رؤية مشتركة للدول الأفرو آسيوية في مواجهة الاستقطاب الدولي آنذاك. وهنا يمكن تفهم دلالة تركيز مجموعة البركس علي إفريقيا حيث تشير التقديرات الاقتصادية إلي أن تجارة البريكس مع إفريقيا سوف ترتفع من150 مليار دولار عام2010 لتصل إلي530 مليار دولار عام2015, و ما ذلك ببعيد. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بالفوائد التي تعود علي مصر وإفريقيا من التعاون مع مجموعة البركس. فقد ذهب بعض المحللين إلي القول بأن محاولات القوي الاقتصادية الكبري الصاعدة في العالم مثل الصين والهند التغلغل في إفريقيا للوصول إلي السلع والأسواق تمثل عملية تقسيم ثانية لإفريقيا كتلك التي حدثت بين الدول الأوروبية في برلين عام.1889 وعلي العكس من ذلك تماما فقد ذهب نفر ثان إلي القول بأنها تمثل علامة فارقة علي تحول النظام الدولي باتجاه تعدد الأقطاب والقوي. وبعيدا عن هذا الجدل النظري فان محاولة إنشاء بنك البركس تمثل خطوة جيدة تعبر بشكل أو آخر عن حلم الرئيس الراحل شافيز بإنشاء بنك الجنوب للتخلص من هيمنة مؤسسات بريتون وودز, ومساعدة دول الجنوب في الاستثمار بمشروعات البنية الأساسية لديها. تستطيع مصر من خلال إمكاناتها الاقتصادية و قدراتها البشرية أن تعظم من منافع القارة الإفريقية في ظل هذا التنافس الدولي الجديد. إذ ينبغي النظر إلي إفريقيا باعتبارها سوقا موحدة كبري حيث تستطيع مصر من خلال محور القاهرة كيب تاون التعبير عن مصالح الأفارقة بما يسهم في دعم مسيرة الاستثمار والتنمية في إفريقيا. علي أن الدور المصري الفعال مرتبط بمدي المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار الخارجي, وهو ما يعني تحقيق مبادئ الشفافية والمساءلة, وهو ما سعت إلي تحقيقه ثورة يناير. إذ لا يخفي أن الحوار العام والمجتمعي في مصر لا يزال أسير قضايا الداخل اليومية بحيث يغيب الحوار المجتمعي حول أي من القضايا الإقليمية والدولية المرتبطة بأمن مصر واستقرارها. فهل تقوم دوائر صنع القرار في مصر بتشكيل منتديات فكرية وعلمية للحوار, وصياغة رؤية مستقبلية حول جميع قضايا السياسة الخارجية المصرية بعد الثورة؟ إن نهضة الأمة المصرية مرهونة بعودة الروح إلي جسد الدولة العليل كي يعود إلي سابق عهده نابضا بالحياة, ومواجها لجميع التحديات بما يضمن له الأمن و الاستقرار. لمزيد من مقالات د. حمدى عبد الرحمن