احتفلت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, هذه الأيام, بالعيد الذهبي لانشائها. ولقد مثل انشاء الكلية عام1960 خطوة اضافية في جهود حكومة ثورة يولية لاستكمال مؤسسات التعليم والادارة اللازمة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وسبق انشاء الكلية مراحل متعددة من التطوير والتحديث لمؤسسات الدولة منذ الحرب العالمية الثانية. وكانت مصر قد طورت جهازها التعليمي باضافة جامعة الاسكندرية وجامعة عين شمس, وسبقت بذلك كل دول المنطقة العربية بل والإفريقية التي لم تكن قد عرفت التعليم الجامعي الحديث. كذلك كان هناك جهد حثيث في محو الأمية, وتوفير التعليم الالزامي المجاني حرا كالماء والهواء كما دعا الدكتور طه حسين وزير المعارف في ظل وزارة الوفد الأخيرة قبل الثورة. كذلك استأنفت الحكومة بعد الحرب العالمية سياسة ابتعاث الأوائل في الجامعات المصرية إلي الخارج, وعاد منهم العشرات ليكونوا محركين لعجلة التنمية والبناء. وما هي إلا شهور معدودة بعد الثورة حتي تم إنشاء الجهاز القومي للانتاج الذي هدف إلي وضع خطة لتنمية الانتاج الصناعي في مصر وتبنت الدولة مع القطاع الخاص تأسيس شركات جديدة ورائدة في قطاعات حيوية مثل شركة الحديد والصلب, وشركة كيما للأسمدة في أسوان, وشركة راكتا للورق( باستخدام قش الأرز) في الاسكندرية, وغيرها وتشجيعا للمستثمرين ضمنت الدولة عائد أسهم بعض هذه الشركات. وفي ظل المناخ الجديد الذي يدعو إلي الاستقلال الوطني والاكتفاء الذاتي, تابعت الحكومة جهود تمصير الاقتصاد المصري والتخلص من سيطرة الأجانب, وتم تأميم قناة السويس عام1956, ثم أنشأت في العام التالي المؤسسة الاقتصادية لادارة الأصول التي أممتها الدولة من ملكيات رعايا الدول المتحالفة ضد مصر في حرب السويس. وفي ذات العام انطلق برنامج السنوات الخمس للتصنيع في ظل وزارة جديدة. وبعد ثلاث سنوات بدأت جهود اعداد خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الأولي(1960 1965) وكان الهدف المعلن هو مضاعفة الدخل القومي في عشر سنوات. ومثلت تجربة التنمية في مصر نموذجا للعالم الثالث, ومصدرا للاعجاب لدي خبراء التنمية في العالم ويجب ألا ننسي أن دخل الفرد في مصر في نهاية الخمسينيات كان أعلي من نظيره في كوريا الجنوبية وماليزيا وغيرهما من النمور الآسيوية. وهكذا تجمعت جهود انشاء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. واتخذت لجنة الاعداد لها من كلية الاقتصاد في جامعة لندن نموذجا للكلية الوليدة. واتفق علي تكون الكلية الجديدة فريدة من نوعها في الجامعات المصرية, ونقل إليها الطلبة المتفوقون الناجحون في السنة الأولي في كليات الحقوق والتجارة في الجامعات المصرية. وهكذا بدأت الدراسة في السنتين الأولي لطلبة الثانوية العامة من القسمين العلمي والأدبي, والثانية من المحولين من الحقوق والتجارة. ومع تحديد أعداد السنة الأولي ب250 طالبا فقد تأكد وضع الكلية كإحدي كليات القمة. ولقد أدار العملية التعليمية في الكلية شخصيات فذة ورائدة ومنهم الدكتور محمد زكي شافعي( العميد الأول), ووهيب مسيحة( لوكيل الأول), والدكتور أحمد أبواسماعيل, ورفعت المحجوب, وبطرس بطرس غالي, وفتح الله الخطيب, ولبيب شقير. وكان لكل منهم دور مهم في الحياة السياسية وفي ادارة مواقع مهمة في الاقتصاد المصري بل والعالمي. وامتازت الكلية بمناخ حر من التفاعل بين الأساتذة والطلبة. كذلك فإن التغيرات السياسية السريعة في أوائل الستينيات سمح لطلبتها بالمساهمة في النقاش الفعال حول تطوير المجتمع وصياغة مستقبله من خلال لجان الاتحاد الاشتراكي, ونشاط الأسر الطلابية ومجلات الحائط. ونتيجة هذا التعليم الراقي والنضج السياسي والاجتماعي استطاع خريج الكلية أن يثبت نفسه في الجهات المسئولة عن العمل الاقتصادي والدبلوماسي والاعلامي والمصرفي في مصر والعالم أجمع. فمنهم من وصل إلي أعلي السلم الاداري في وزارات المالية والاقتصادية والتعاون الدولي والتخطيط بل في مجالات الشباب والرياضة والسكان, ومنهم من قاد مؤسسات مصرفية دولية, أو شركات صناعية كبري, كذلك شغل العديد منهم مناصب تعليمية قيادية في الدول العربية وفي دول المهجر مثل الولاياتالمتحدة وكندا واستراليا. تطور الاقتصاد والمجتمع المصري تطورا كبيرا خلال الأعوام الخمسين الأخيرة. وحاولت الكلية أن تتواءم مع هذه التغيرات الكبري وخصوصا في التوجه نحو الاقتصاد الحر واعطاء القطاع الخاص الريادة في التنمية. وأضافت الكلية برامج جديدة ودراسات خاصة وبالذات في مجال عمل أسواق المال وإدارة المؤسسات غير الحكومية, ودراسة جدوي المشروعات وادارة المصارف. مع ذلك فلم يعد خريج الكلية يجد بسهولة مكانه في الهيئات الاقتصادية ومراكز صنع القرار الاقتصادي والسياسي. وقد يكون أحد أسباب هذا التراجع هو في غياب التنظيم النقابي لخريجي الكلية مما يعطيهم قدرة علي تحديد مواصفات المهنة والدفاع عن مصالحهم. وقد يري آخرون أن السبب يكمن في تراجع دور الدولة وغياب أو ضمور أجهزة التخطيط ودعم القرار علي مستوي الدولة. وفي الواقع أن هذه قراءة خاطئة لاحتياجات التنمية حتي في ظل النظام الحر. ذلك أن الاقتصاد الرأسمالي في أنقي صوره في الولاياتالمتحدة يعتمد علي منظومة متكاملة من جهات البحث وصنع القرار سواء علي مستوي الدولة أو المنظمات العلمية وغير الحكومية. ولقد أكدت الأزمة المالية العالمية الأخيرة الحاجة إلي دور نشط للدولة في الحياة الاقتصادية, ليس فقط في الرقابة علي المصارف والمؤسسات المالية, ولكن أيضا كشريك أساسي للقطاع الخاص وفي قطاعات حيوية, فلا يمكن أن يتصور استمرار نجاح صناعة السيارات دون دعم كبير للدولة. كذلك لن يستطيع الاقتصاد المتقدم مجابهة متطلبات اقتصاد المعرفة, أو تحديات نضوب الموارد التقليدية للطاقة أو مشاكل الاحتباس الحراري وتلوث البيئة دون وضع سياسة واعية مبنية علي دراسات وبحوث اقتصادية ومالية وسياسية. وهكذا ونحن نحتفل معا بذكري انشاء احدي الكليات الرائدة ومعاهد العلم المميزة في مصر, يجب علينا أن نعيد النظر في منظومة صناعة القرار السياسي والاقتصادي والاهتمام بتوظيف امكانات الكلية في خدمة النهضة المنشودة.