في اليوم الأول راح السائق يتقدم بي مرورا بأعداد من المقار الانتخابية, نساء ورجال من أبناء مصر في صفوف ملتوية لا أول لها ولا آخر, ناس ميسورة وناس علي قد الحال معتمدين علي سيقانهم أو مستندين إلي أكتاف آخرين. أو في مقاعد لها عجلات أو محمولين في طرقات شبه مسدودة بالعربات والناس, لم أتمكن من الوصول إلي لجنتي بسبب الصفوف المتطاولة, أرجأت اقتراعي إلي الغد, وعدت إلي البيت. جلست أفكر في هذه الحشود الصامتة التي فاجأتنا وفاجأت الدنيا بعدما خرجت تحت المطر والبرد لكي تدلي بأصواتها في مشهد لايصدر إلا عن شعب أكثر تحضرا مما يظن الكثيرون, كنت فرحا, مثل غيري, بالانطباعات الطيبة التي أزالت كل الصور البائسة التي شوهت صورتنا طوال الشهور الماضية, والتي استعادت أيامنا البهية الأولي التي كانت استقرت في وجدان العالم كله. كانت العائلة توزعت بين لجان مختلفة, برغم عيشنا في حي واحد, وفي نفس العنوان أحيانا, وكنت أسعي الآن, برغم عمرنا المديد, لممارسة حقي الانتخابي لأول مرة( بعد الاستفتاء طبعا). في اليوم الثاني جلست إلي جوار سائق آخر, أخبرته أن لجنتي في مدرسة الأباجية الثانوية علي مقربة من السيدة عائشة, وهو ضحك وقال إنه يعرفها, لأنها اللجنة التي أدلي فيها بصوته أمس, عندما سألته, وأنا أتشاغل بالنظر إلي الخارج: ياتري انتخبت مين؟ فكر قليلا وقال: الحقيقية مش فاكر قوي, أصل الأسامي كتير, حضرتك حتشوف بنفسك. وأنا رحت أفكر, بيني وبين نفسي, باعتبار أنني لست راضيا تماما, لأن الفرص التي لم تكن متكافئة أصلا بين المرشحين بسبب من تقدمنا عكس الاتجاه نزولا علي رغبة البعض ليس إلا, وقلت لنفسي إن الشكاوي التي جرت من تجاوزات هنا أو هناك سيقوم القضاء, غالبا, بالبت فيها, وأن علينا جميعا أن نقبل بنتيجة هذه الانتخابات بنفوس راضية, أو علي الأقل شبه راضية, لأن هذه هي الديمقراطية, تظل الفرصة متاحة دائما أمام كل من يعمل علي خدمة هذا الوطن, وتحقيق مطالبه التي قامت ثورته من أجله. سرعان ما وجدتني لا أجد شيئا آخر أفكر فيه أكثر من أن هذا الإقبال الشعبي لم يستند طيلة الوقت إلي معرفة دقيقة بجموع المرشحين, وأن هذا ليس تقليلا من شأن ماجري, يكتفي الواحد فقط بأن يذكر نفسه علي الأقل بأن هذا الاقتراع ليس تفويضا لأحد بأن يفعل ماشاء, فالملايين التي خرجت من أبناء البلد لم يخرجوا إلا تعبيرا عن إصرارهم علي تحقيق حلمهم في حياة حرة وكريمة وعادلة نادت بها ثورتهم وبذلت الدماء أضحية لها وليس لأحد أو لشيء آخر, ووجدتني بعدما فكرت هكذا شعرت بارتياح أكثر, لأنه في الحقيقة, لن ينفع أن تخيب آمال الناس.. لن ينفع أبدا. كنت ما أزل, طبعا, أطل من نافذة العربة التي تشق طريقها بهدوء, لقد انتهي الزحام تقريبا أو كاد. وعندما غادرت العربة لم يكن هناك إلا أعداد من هؤلاء الذين يلحون عليك بالأسماء, والأولاد الذين يلعبون ويصيحون فيك: لجنة نمرة كام؟ ويوجهونك الوجهة الصحيحة, وكانت الأرض مبدورة ببطاقات من الورق المقصوص, أمام أسوار المدرسة الصفراء, كذلك جدران البيوت القديمة, وجذوع الأشجار العجوز, فقد كانت مغطاة كلها بملصقات ملونة, هبطت المدخل الحديدي المفتوح ومشيت في الحوش المكشوف, وتساءلت: لجنة رقم واحد؟ الدور الثاني: هكذا قالوا وهم يدسون في يدي بالبطاقات المطوية, وتقدمت حتي وصلت أول السلم رحت أصعد متمهلا وأنا أتشبث بالسياج الحجري وأفكر في هذه الأرض التي انشقت فجأة, يا للعجب, وابتلعت البلطجية الذين نغصوا حياتنا( علمت مساء نفس اليوم أنهم خلعوا ثياب الباعة وارتدوا السيوف والسنج وزجاجات المولوتوف وراحوا يهاجمون المعتصمين في الميدان). عند المدخل المفتوح للحجرة وجدت القاضي الشاب جالسا, كان هنا مقر اللجنة الأولي والثانية, أمهلني قليلا معتذرا بأن الجماعة في الداخل يتناولون غداءهم وتخلي لي عن مقعده ودخل, أنا جلست مكانه راضيا. لم يمر وقت حتي بدأت أعداد قليلة في التوافد رويدا, كانوا يسألونني وأنا كنت أطلب من ناخبي هذه اللجنة الأولي أن يقفوا هنا, ومن ناخبي هذه اللجنة الثانية أن يقفوا هناك, وهم امتثلوا لي باعتباري أحد العاملين, والحقيقة أنني لم أقدر أبدا علي منع نفسي من التلصص عليهم, لذلك رحت أميل بين حين وآخر بجانب عيني اليسري إلي هناك وأنظر لكي أراهم وهم يأكلون. كان البعض يعطيني ظهره فلا أعرف كيف يأكل, والبعض الآخر كنت ألمحهم وإن بصعوبة, والحقيقة أن من لمحتهم هؤلاء كانوا جائعين فعلا, بعد قليل تقدم من باب اللجنة قاض شاب آخر وإن كان أكبر حجما وصفق بيديه وقال: اتفضلوا وما أن بدأوا في الدخول حتي وقفت أمامهم, احتجزتهم جميعا بذراعي, ثم سبقتهم إلي الداخل. بعدما انتهيت غمست إصبعي في العلبة الصغيرة, وأثناء خروجي تطلع أحدهم في وجهي مستغربا, إلا أنني لم أهتم. قلت: المقطم, وجلست إلي جواره والسائق الجديد هذا راح ينظر إلي باسما, ثم قدم لي سيجارة وقال: علي فكرة, أنا بأشبه علي حضرتك. قلت: ياعم شبه براحتك. قال: حضرتك مخرج سينمائي. صح؟. قلت: للأسف لا, ثم أضفت: لكن عندي واحد صاحبي مخرج سينمائي فعلا. وهو قال: يبقي علشان كده بقي. المزيد من مقالات إبراهيم اصلان