لاشك ان شباب الثورة نجحوا في الحفاظ علي جذوة الثورة المصرية متقدة ويقظة, بحيث استعاد ميدان التحرير دوره المحوري في صنع المستقبل السياسي لمصر مرة ثانية وبنفس القوة. بشكل غير معهود في الثورات الأخري, مضيفين بذلك ملمحا جديدا من ملامح عبقرية وتميز الثورة المصرية. إلا أن الأحداث بتطوراتها المتلاحقة في زمن قصير قد افرزت مراحل متداخلة ومتشابكة أوصلتنا الي مشهد غاية في التعقيد, تتقابل فيه رؤيتان رئيسيتان تجاه الموقف من الموجة الثورية الثانية في التحرير واطروحة المجلس العسكري للتعامل معها, الأولي ترفع راية التصعيد مطالبة بذهاب المجلس العسكري الآن واستبداله بمجلس رئاسي مدني, اما الثانية فتري في اجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية وتسليم السلطة الي مدنيين في أول يوليو خطوة مهمة لابد من استثمارها. ولكل تيار منهم حججه الوجيهة ويعبر عن مسار يراه الانسب لاستكمال الثورة وحمايتها. بعيدا عن توجيه الاتهامات المتبادلة وعن لغة التخوين, فلنناقش اهم المعايير الموضوعية للترجيح بين الرأيين, والموضوعية والعقلانية لاتتعارض بأي حال من الأحوال مع الثورية بل تضيف لها وتوجهها لمزيد من الفعالية والقدرة علي الوصول الي الاهداف. ان الإسراع بعملية نقل السلطة الي حكم مدني منتخب هي الهدف الرئيسي الذي يجب ان نضعه نصب اعيننا ونعمل جميعا علي تحقيقه سواء بدعم ما يقربنا منه او استبعاد ما يبعدنا عنه. وللوصول الي ذلك لابد من الانتباه الي اربعة مستويات للحركة تتضافر معا وتدعم بعضها بعضا. أولا: اهمية السياسي لاستكمال الثوري, ألمح في اغلب السجالات والنقاشات نوعا من النظرة الدونية للانتخابات مقارنة بسمو العمل الثوري, وقدرا ملحوظا من نقد ورفض جهود القوي السياسية ومرشحيها للفوز بثقة الناخبين, بحيث تكرس في الاذهان ذلك الفصل الوهمي بين المصلحة الانتخابية والسياسية من جانب وبين مصلحة الثورة والوطن من جانب آخر, بل واعتبار انهما متناقضتان, حتي ان أهم اسباب الهجوم علي الرموز والأحزاب التي اعلنت عن عدم اشتراكها في الاعتصام انها تسعي لمصالح انتخابية, متناسين انه يمكن بالمثل النظر الي اشتراك كثير من الشخصيات في الميدان علي اساس انه سعيا لمكاسب انتخابية, بل انني اكاد اجزم ان القوي الرافضة للمشاركة في الاعتصام مثل الإخوان المسلمين اذا ما كانت قد اعلنت عن نيتها المشاركة ولو من اليوم الأول, كان سيتم توجيه نفس التهمة لها, باعتبارها تسعي لركوب موجة الثورة وان عينها علي الانتخابات بعد ايام قليلة. بل ان مليونية جمعة18 نوفمبر التي نجحت في ارسال رسالة قوية للمجلس العسكري واشتركت فيها قوي مختلفة تم اختزالها كعمل دعائي للانتخابات واستعراض للقوة من قبل فصيل سياسي دون الآخر. هذا الالتباس ليس فقط منبعه المنافسة الشديدة بين الإسلاميين والليبراليين واليساريين, بل منبعه الغفلة عن حقيقة واضحة, انه لا يمكن الفصل بين السياسي والثوري, بل إن الأول هو الذي يحقق الثاني. بمعني ان مطالب الثورة لا تتحقق إلا من خلال نظام ديمقراطي فعال وقوي, والآلية الرئيسية لتحقيق ذلك تظل الانتخابات. ثانيا: اهمية التمييز بين العامل المستقل والعامل التابع, بمعني ان الحكم المدني المنتخب صاحب الشرعية سيكون هو العامل الحاكم في تشكيل حكومة قوية تعيد هيكلة وزارة الداخلية, ومايتم قبل ذلك سيظل مسكنات مؤقتة, وعمليات تجميل سطحية, ومن ثم فحسب الجدول الزمني الذي اعلنه المشير, فإن الاصلاح الحقيقي لجهاز الشرطة لن يبدأ قبل اول يوليو. هذا لايمنع من ضرورة العمل علي محاسبة قيادات الشرطة التي تسببت في هذا الاستخدام العدواني المشين للعنف ضد المعتصمين الذي اسقط الشهداء والجرحي من خيرة شباب مصر, والذي كان السبب المباشر في تعبئة الثوار مرة أخري ثالثا: اهمية التمييز بين الفرعي والرئيسي, ان الحديث عن الاستفتاء الآن هو فخ جديد نساق له جميعا كمجتمع, لنبدأ في الخلاف حول عقد الاستفتاء من عدمه, ثم تتناثر حجج وأنصار نعم أو لا, ثم الجدل حول نتيجة الاستفتاء ودلالاته, وجميعها مراحل فرعية تستنزف طاقاتنا لمناقشة أمور فرعية, لاتخدم الهدف الرئيسي وهو عملية إنهاء حكم العسكر, بل قد تقود الي شرعنته في الأشهر المتبقية قبل تسليم السلطة, وهو الأمر الذي له تأثير خطير علي صياغة العلاقات المدنية العسكرية في النظام السياسي المصري الجديد بعد ذلك, إنها ليس فقط مضيعة للجهد وتكريس لسيناريو إضاعة الوقت, وإنما أيضا مخاطرة ألا يدفع اليها الثوار بإصرارهم علي التصعيد, وبالمثل يمكن من هذا المنطلق تقييم اقتراح تأسيس مجلس رئاسي مدني, حيث يفتح الباب علي مصراعيه لصراعات لا تصب في عافية العمل السياسي لبناء النظام الجديد, بقدر ما ستساعد علي زيادة حالة الانقسام والتشرذم بين القوي السياسية وبعضها البعض, وبين هذه القوي مجتمعة وقوي شباب الثوار( ممثلة الآن بالمعتصمين في التحرير), وبين قوي التحرير والدوائر الشعبية في عموم بر مصر, انه اقتراح وان تجلت وجاهته بسبب فشل المجلس الأعلي في ادارة المرحلة الانتقالية, إلا أن مخاطرة الحالة المباشرة في هذه المرحلة الأخيرة من الفترة الانتقالية اكبر لأنها قد تشوش علي عملية نقل السلطة وتسهم في إطالة المدة لأبعد من يوليو.2012 ربما من الأنسب التركيز علي تشكيل حكومة انقاذ وطني يرأسها شخصية توافقية يقبلها كل من ثوار التحرير والقوي السياسية علي ان يكون التشكيل عاكسا للتيارات المختلفة والاهم ان تضم في طياتها تمثيلا كبيرا لجيل الشباب من النشطاء, مع ضرورة إعطاء صلاحيات كاملة وحقيقية لمجلس الوزراء. رابعا: علي ثوار التحرير إدراك تعقد علاقتهم بخارج الميدان سواء علي الأرض او علي مستوي علاقتهم المعنوية بعموم المصريين. ان احتمالات اندساس بعض البلطجية ليست كلها فبركات اعلامية رسمية, حيث ان تجدد الاشتباكات دوما في شارع محمد محمود, وفشل الهدنة اكثر من مرة, وتنوع الروايات الي حد التناقض عند توصيف المشهد, إنما هي دلائل علي ان المشهد الميداني اكثر التباسا عنه في25 يناير, فتأمين مداخل التحرير من الضعف الذي يصعب معه علي شباب الثورة منع تجدد الاحتكاكات والإبقاء علي الطابع السلمي والحضاري للاعتصام. كما ان الظهير الجماهيري المساند بقوة للتحرير والملتحم معه في رفع نفس المطالب ليس متوافرا الآن, فبالرغم من ضيق الجميع بتباطؤ آداء المجلس العسكري, إلا إن إعلانه بعد طول عناء عن موعد نهائي لتسليم السلطة اعطي مبررا للانتظار. خلاصة القول أن احد اهم خطوات استكمال الثورة استنهاض الشارع الانتخابي ليعبر عن الشعب الذي انتفضت غالبيته في25 يناير وقدم السند الجماهيري لشباب الثورة, فكانت ثورة جماهيرية عن حق, ارجو ان يستمر التحرير في تواصله مع المجتمع المصري بقواه السياسية وقواعده العريضة, فلا يضيف انقساما جديدا برفضه للأحزاب والرموز السياسية, فالمرحلة حرجة تحتاج جهود وخبرات الكل, ولا يمكن لجهة بمفردها الانفراد بالساحة الثورية السياسية. فلابد من ادراك التكامل بين السياسي والثوري, بل إن إعلاء السياسي في هذا الوقت الحساس ضرورة لحماية الثوري.