بذاكرة فكرية, وإيقاع لغوي كلاسيكي يقدم أستاذ الفلسفة ووزير ثقافة المغرب بنسالم حميش مغامراته الروائية الجديدة, في نقد عولمة التعذيب السياسي في السجون الأمريكية العابرة للقارات. يروي بضمير المتكلم احداثا معاصرة, بعد ان أشبعنا بتجاربه التاريخية منذ مجنون الحكم(1990) والعلامة(1997) إلي هذا الأندلسي(2007) فيقبض علي جمرة السياسة الدولية ليتأملها, في لون من التجربة الفكرية المتخيلة, وهي تمسك بشخص مغربي بريء, لتجبره علي الاعتراف بما لايعرفه, أو الانخراط في سلك عملائها المجندين, وتذيقه من مشاهد الجحيم الأرضي مايهتك دعواها في رعاية حقوق الانسان, ويدفعه الي المبالغة في التمسك بدينه واستنفار طاقاته الروحية في المقاومة والتماسك, بما يؤدي الي عكس ما تستهدفه من اقتلاع جذوره وترويضه, ولأن الكاتب مثقف محنك, برع في تشكيل نماذجه الروائية بمنطق التصوير الدرامي واستثمر حسه السينمائي, فهو يدير روايته الجديدة معذبتي وقد نشرها في دار الشروق علي محور الاعترافات الحميمة, حيث يستهلها الراوي السجين برسالة كاشفة دستها في يده مواطنته نعيمة بعدما أشفقت عليه فكتبت له: عزيزي حمودة: إذا شق عليك أن تصير خديم أعتاب الطغاة وخططهم الجهنمية عميلا مزدوجا, قاتلا أجيرا, فعليك بمراودة حل قد ينجيك لو أتقنته: أن تتحانق وتتمارض.. دوخ مستنطقيك بأعتي كلام الحمقي والمجانين, هدد معذبيك بسعالك وعدوي مرضك, لعل وعسي ان ييأسوا منك فيعيدونك الي موطنك أو قريبا منه, مخدرا بأفيون, تصحو منه وأنت مراقب بدمليج كهربائي, ومستهدف برصاصة في الرأس, تصيبك ولاتخطئ, إذا مارويت قصتك او رفعت في شأنها شكاية.. في هذه السطور الاولي من الرواية يجازف الكاتب بكشف سر الموقف في ذروته السردية, بما يجعل الصفحات التالية بسطا لما يسبق احتدام المصيدة, أو تطبيقا عمليا لما يرد فيها من إشارات جامعة, بلغة مغرقة في وجازتها البليغة ومائها العتيق. عنف المتخيل يمتلك حميش حافظة شعرية مستوعبة, ربما كان اختيار عنوان الرواية بضغطها, فصيغة معذبتي تذكرنا بقول الشاعر: جاءت معذبتي في غيهب الغسق, ومع أن التعذيب قد ينصب عند إسناده للمؤنث الي مواجع العشق, فإن المفارقة هنا تكمن في قصد معناه الحرفي, وهي التجربة التي يمثلها الكاتب بعنفوان متخيله, تقع لمواطن مغربي طيب, يحمل قسرا بعد تخديره, وعصب عينيه الي مكان مجهول, ويخضع لسلسلة من الاستجوابات الشنيعة, بعد ان يمر في البداية علي مايسميه المؤلف لقاط الأكاذيب اي جهاز كشف الكذب, فيضطرب عند سؤاله عن انتمائه الي خلية جهادية نائمة او عاملة: سكت معرضا متمعنا, لكني اضطررت الي تلفيق جواب بعدما شعرت بموسي حاد تلامس قفاي, مفاده اني عاشرت فيما مضي فرقة صوفية لمدة محدودة, سألني عن اسمها, قلت: فرقة اليقطين, وعن شيخها ومقربيه, أجبت بعد تلكؤ نسيت, فاسودت الشاشة فجأة كأنها عطبت في إشارة الي احتمال كذبه, واسود بعدها مصيره في السجن, حيث اخذ يتعرض لاختبارات شديدة القسوة بدأت بإلقاء رفاق ورفيقات, جرحي ومشوهين من التنكيل بهم في فراشه حتي يري بعينيه ماينتظره مثلهم, وأخذت تتصارع وتيرة التعذيب النفسي والجسدي بأشكال عديدة حتي انتهت الي تسليمه لما أسموها ماما غولة وأعوانها, فيسرد الراوي: علقوني من رجل واحدة الي حبل متدل من السقف مثل كبش معد للسلخ, اقتربت الغولة مني, سيجارة بين شفتيها, أخذت تكوي بتبغها المتقد أخمص قدمي فردفي وظهري وإبطي, بالرغم من صبري الأيوبي, ندت عني صرخات مخنوقة, ثم اقدمت الغولة علي تفريق فخذي واسعا, وحشت رأسي قنينا في سوتي بعنف جعلني أملأ المكان بصرخات الألم, فاهتبلتها معذبتي فرصة لتضيق الخناق علي بأسئلتها عن انخراطي في الخلايا الجهادية, وتتخلل صور العذاب فترات من الرفق الذي يمهد لتراجعه وخضوعه لإغراء العمالة, فتقوم بينه وبين المحقق الذي ينتمي الي بلد عربي حوارات طريفة, تتعرض للأوضاع العربية في علاقتها بالسياسات الأمريكية, منها مثلا ما يقوله المحقسق كلما ناوشت مساعدتي المغربية بالقول: مصر أم الدنيا, ردت علي توا: والمغرب أبوها, لكنني اليوم مصري بالعرض, عربي قومي بالجوهر, مصر كانت ام الدنيا أيام زمان, لكن اليوم ياخسارة, الأرض اللي تطلع جماعات التكفير والهجرة وإخوان كذا, وهي دولة علي قدها كيف تكون ام الدنيا؟ البلد الذي عجز عن ان يكون في التنمية الشاملة القاطرة, وفي الديمقراطية المثال والقدوة, نقول عنه ام الدنيا؟ أحسن لي أسكت ومع هذا الاستطراد النقدي الصائب فإن ذاكرة الراوي عندما تستنجد بقطعة شعرية عن عذاب المعتقلات لاتجد سوي قصيدة لأحمد فؤاد نجم عن سجن القلعة يقول فيها: في المعتقل ياسلام سلم.. موت واتألم.. لكن لمين راح تتظلم.. والكل كلاب كلاب.. حراسة وكلاب صيد.. واقفين بالقيد.. يكتفوا عنتر وأبوزيد, والسجانون في هذه المعتقلات الرهيبة أشد خسة من الكلاب, فالغولة تنتهك عرض سجينها الوجودي حمودة وتذيقة ومئات مثله سوء العذاب حتي يعمد الي الحيلة التي نصحته بها مواطنته نعيمة عندما زودته بأنبوب من الدم كي يضعه في فمه ويوهم المحقق بأنه يبصق دما من مرض السل الذي تغلغل في صدره فيخشي من العدوي ويكف عن استدعائه, ومع ذلك يطلقون عليه الرصاص الزائف لكسر ارادته وترويضه وإذاقته رعب الموت وهو حي, ولايصبح في وسعه حينئذ الا ان يعتصم بمذخوره الديني في الآيات القرآنية والاحاديث النبوية, ويكون مغزي ذلك الدلالة علي فشل المشروع القسري للسجن والتعذيب, ويصبح مصرع الغولة علي يد مساعدها العملاق الأسود في نوبة هيستيرية جزاؤها العادل, ويفرج عن السجين ويعود للاعتزال في قريته المغربية ليعيش في تبات ونبات علي طريقة الأفلام المصرية أيضا. المزيد من مقالات د. صلاح فضل