هي رمز الأمومة الآن بلامنازع, ونبع الحب الصافي, حيث تذكرنا بالأم المصرية الطيبة البسيطة التي تحب أبناءها بجنون, ولا تقوي ولو لحظة في الاستغناء عنهم أوترفض لهم طلبا, لم تكن وهي في شرخ الشباب نجمة, ولم تتطلع إلي بطولة مطلقة, ولكن حضورها جاء أعمق وأقوي من العديد من النجوم الذين عملت في ظلهم. هي كريمة مختار التي استطاعت أن تصبح بجدارة سبيكة ذهبية للأمومة ونسيجا فريدا بما جسدته علي مدي50 عاما من مئات الأدوارعلي خشبة المسرح, والسينما, والتليفزيون, والإذاعة, وفي كل هذه الأدوار كانت هي الأم بكل أنماطها الأم المثالية,والأم المغلوبة علي أمرها, والأم المطيعة إلي حد السذاجة, وهي الأم الصامدة التي تقف بصلابة في مواجهة المحن, فلم تتقيد بنوع واحد من الأدوارللأم, ولم تتخصص في نوعية واحدة, مثل من سبقوها في تجسيد هذه النوعية مثل فردوس محمد,أمينة رزق,عزيزة حلمي,عقيلة راتب وغيرهن, وساعدها علي ذلك تركيبتها الجسمانية, وصوتها الدافئ, وصدق الأداء, لذا تركت انطباعا دائما بأنها أم تملك من الحنان ما يكفي ويفيض علي الشاشة, فضلا عن قوة الشخصية التي لم تجبرها يوما علي القيام بدور الأم الخنوعة, تلك التي تستسلم لزوجها, وتطيع أوامره بلا عقل وروية, بل كانت صاحبة رأي وموقف, حتي حين جسدت أدوار الأم في إطار كوميدي, مثلما فعلت في أفلام يارب ولد, أو رجل فقد عقله, أو مسرحية العيال كبرت. الاقتراب من عالم الفنانة كريمة مختار أشبه ما يكون بدخول مغارة مليئة بالأسرار والكنوز, فعالمها الظاهرالمتسم بالطيبة والحنية يخفي وراءه تجارب حياتية مختلفة, مسكونة بالقوة والعزم والإصرار, ويخفي أيضا في طياته قصة كفاح كبيرة, وصلابة في الرأي وإصرارعلي مواصلة الطريق الفني مهما لاقت من صعاب, وكانت بدايتها من خلال برنامج الأطفال الإذاعي الشهير بابا شارو, الذي اشتهرت فيه كصوت إذاعي مميز يجيد تقديم الأعمال الدرامية, وعندما فكرت في دخول عالم الفن اصطدمت برفض أهلها وتحفظهم علي هذا التفكير, لكن حبها للفن تغلب, ومراعاة لرفض أهلها قررت أن تعمل باسم مستعار وهو كريمة مختار, بدلا من إسمها الحقيقي عطيات محمد البدري, وخلال سنوات قليلة وبسبب صوتها الجميل كانت سندريلاالإذاعة,والقاسم المشترك لكثير من الأعمال الدرامية الإذاعية, فهينعيمة في رائعة المخرج محمد توفيق حسن ونعيمة مع العملاق صلاح منصور, تلك القصة التي تحولت فيما بعد لفيلم سينمائي, وكان سببا في شهرة سعاد حسني ومحرم فؤاد, ونظرا لتفوقها في هذا المسلسل طلبت سيدة الغناء العربي أم كلثوم التعرف بهذه الفلاحة الرائعة التي استطاعت تجسيد دورنعيمة بتفوق بالغ, وعندما علمت أنها ممثلة جديدة, قامت بتهنئتها. وهي سوسن في رائعة الكاتب يوسف عز الدين عيسي العسل المر, ووردة في تحفة يوسف الحطاب وردة وعابد المداح, و'ست الدار' في ملحمة أدهم الشرقاوي, وهي ذاتها شهرزاد في الأوبريت الغنائي شهريار, وغيرها من تمثليات ومسلسلات الإذاعة التي كانت نجمتها الوحيدة في فترة الخمسينيات, وفي هذه الفترة ونظرا لجمال صوتها طلب صديقها في معهد الموسيقي العربية العندليب عبدالحليم حافظ أن تشاركه بصوتها بطولة فيلمه الجديد فتي أحلامي نظرا لسوء صوت الممثلة مني بدر بطلة الفيلم, وأدت الدوبلاج بنجاح بالغ لكنها لم تحب تلك التجربة وندمت عليها. خلال سنوات قليلة جذبتها أضواء السينما إلا أن أسرتها رفضت تلك العروض, فاقتصرعملها علي الإذاعة, حتي جاءتها الفرصة مرة أخري بعد زواجها من المخرج نور الدمرداش, حيث شاركته بطولة أول أفلامه كمخرج والذي حمل اسما ثمن الحرية عام1964, وفي هذا الفيلم جسدت لأول مرة دور الأم التي تخرج للبحث عن طعام لأطفالها الصغار, فيتم القبض عليها من قبل قوات الاحتلال البريطاني مع آخرين كوسيلة للضغط لكشف أسرار تنظيم سري يرأسه شاب وطني استطاع من خلال هذا التنظيم أن يقلق مضاجعهم, واستطاعت من خلال هذا الدور أن تمس شغاف القلوب, وتفجر مشاعر الجمهور بحنانها المتدفق وقلبها الطيب, وهي تتوسل للحكمدار الإنجليزي كي يتركها تعود لأطفالها الجوعي, وبعد هذا الدور قدمت مع المخرج حسين كمال في أول أفلامه دور الزوجة التقليدية في فيلم' المستحيل'. وبعد النجاح الكبير الذي حققته الفنانة القديرة' كريمة مختار' في السينما تعددت أدوارها, لكنها جميعا كانت تدور في فلك الأم, ونظرا لأن زوجها هو ملك الفيديو فقدمت معه العديد من الأعمال التي لا تنسي في التليفزيون فهي بهية في مسلسل الجنة العذراء,أصيلة في مسلسل أصيلة,عديلة فيبنت الأيام, وبهية مرة ثانية في الليلة الموعودة, وغيرها من أدوار الأم التي ظلت عالقة في أذهان ومحبي الفن. كانت براعتها في تقديم دورالأم بملامحها المليئة بالمشاعرالحانية مع مسحة الحزن والشجن سببا في إقبال مخرجي السينما عليها, فقدمها مخرج الروائع حسن الأمام في دورها الخالد وبالوالدين إحسان, وحصلت علي جائزة النقاد عن دورها الرائع في فيلم ومضي قطار العمر للمخرج عاطف سالم والذي قدمت معه أيضا العديد من الأفلام أبرزها الحفيد, وتوالت معها أدوارالأم إلي أن فاجئت الجميع بدورها الضاحك الباكي أم زينهم في فيلم الفرح, لكن يبقي درة أدورها كأم في مسلسل يتربي في عزو الذي دخلت من خلاله كل البيوت المصرية والعربية بحنانها الزائد وتدليلها المبالغ فيه لابنها حمادة الذي يبلغ من العمر ستين عاما, وبهذا الدور قلبت كل الموازين, وأكدت أن للخبرة الطويلة كلمتها بنجاحها في أداء شخصية ماما نونا, وعلي درب الخبرة المصحوبة بالبراعة كان دورها في فيلم ساعة ونص الذي أبكت من خلاله كل المشاهدين, خاصة في المشهد الذي تعرف فيه أن ابنها كتب ورقة لمن يعثر عليها ليضعها في دار المسنين, في هذا المشهد لابد أن ينتابك شعورا بالبكاء المر وترفع القبعة احتراما لهذه العملاقة التي تؤكد يوما بعد يوم أنها صاحبة موهبة مرصعة بالماس, وكل ما ينقصها غياب الأدوار المناسبة لمرحلتها العمرية,والأهرام في عيد الأم تقدم لها باقة حب وألف ورده ووردة عرفانا بجميلها وعطائها كأم لكل النجوم.